كتب الكثير عن الحرب الأهلية اللبنانية، بأقلام الروائيين والشعراء والمؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاد، ولكن لا يوجد إلا القليل من الكتابات التي تتناول هذه الحرب من الناحية البصرية الممثّلة بالصورة، و «البوستر» والملصق.
يتفق معظم المحلّلين أن الحرب الأهلية اللبنانية، هي حصيلة صراعات مرتبطة بالسياسة الأقليمية والدولية، ومتصاعدة من النزاعات السياسية والاجتماعيّة المحليّة. وقد انصرف مدبّرو هذه الحرب وممارسوها الى توسّل الخطابات الشفهية، كما توسّلوا صور الحائط، والبوستر، والملصاقات، ليعبّروا عن سعيهم للهيمنة على ساحة القتال، وعلى حقل التفكير، بغية إنشاء «نظام حقيقة» خاص بهم، وللظفر برضا جماعاتهم الذين اختلطت في عقولهم الاشتراكية بالقومية، والطبقة بالهويّة الطائفية، والانتماء الطائفي بالوطنية .
وكما اتبع مدبّرو هذه الحرب وممارسوها سياسة «الخطابات»، سلكوا طريق الصور التي تعتبر في علم الدلالة رموزاً تستغلّ الواقع لتصورّه تبعاً لمصالح مطلقيها، على ما يذكر الكاتب الفرنسي رولان بارت، ويضيف أنّ هذه الصور- الرموز تنطوي في إنتاجها على نوعين من الدلالة: الدلالة الظاهرة التي تعبّر مباشرة عن الغاية من اطلاقها، والدلالة المضمرة التي لا تُفهم إلا من خلال الإطار الأيديولوجي والتاريخي الذي انبثقت منه.
تحليل الصور، صور الحرب الأهلية اللبنانية، هو موضوع كتاب زينة معاصري وعنوانه «ملامح النزاع، الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية» الصادر حديثاً عن دار فرات في بيروت (ترجمة عماد شيحة، مراجعة بيار أبي صعب وتقديم فواز طرابلسي). وهو كتاب يضمّ قراءة تحليلية لعدد كبير من الصور، أو ما تسميّه الباحثة اللبنانية الملصقات السياسية، جمعتها من كل الأطراف المشاركين في الحرب، أو الموثّقين لها، أي من الأحزاب، ومجموعة المحازبين، والمجموعات المتوافرة في مكتبة الجامعة الأميركية.
تندرج دراسة الملصقات، ضمن حقل الدراسات الإعلامية، وتدخل في نطاق «البربوغندا» من حيث هي محاولة منهجية لتشكيل التصوّرات، وتوجيه السلوك، والتلاعب بالمشاعر عند فئة معيّنة من الناس، يعتمدها داعية، قد تكون الدولة، أو هيئة سياسية، أو حزباً، أو ميليشيا كما هي الحال في الحرب اللبنانية. وتبرز الملصقات الخمسمئة التي جمعتها الباحثة اللبنانية في أكثر من ثلثها، أهميّة تصوير الزعيم السياسي وتعظيمه، لكونه يضطلع برسالة سامية هي الدفاع عن جماعته، ومصلحتها الطائفية.
تكتب زينة معاصري في هذا السياق: «يعمل البورتريه كشيفرة بصرية تحيل الى شخص الزعيم على نحو مباشر فتحلّ محلّ الشيفرة اللسانية (الاسم) المكتسبة من بين شفرات أخرى، والمحفوظة في الذاكرة الجماعية». ففي ملصق صمّم في مناسبة اغتيال كمال جنبلاط، يُصوّر الزعيم الوطني كبطل عالمي وسط القادة الأسطوريّين لحركات المقاومة والتمرد في العالم، أمثال جمال عبد الناصر وباتريس لومومبا وتشي غيفارا وهوشيه منه الذين قاتلوا في سبيل قضية مشتركة «في مواجهة الأمبريالية والصهيونية» كما يشير عنوان الملصق. وتحيل ألوان البورتريه الزاهية، ومعالجتها الغرافيكية الى الأسلوب الغرافيكي لملصقات اليسار المناهض للأمبريالية في ستيّنات القرن الماضي وسبعيناته. وفي مرحلة لاحقة، حين تضاعفت المعارك الطائفية بغية السيطرة على المناطق، على أساس وعي طائفي ضيّق، أزيح كمال جنبلاط رمز لبنان العربي العلماني التقدّمي ليحلّ محلّه الزعيم الدرزي التقليدي في ملصقات الحزب التقدمي الاشتراكي. ففي ملصق يعود الى عام 1984 يُعرض بورتريه جنبلاط في معيّة العلم الديني للدروز، بصحبة مقاتلين يرتدون الزيّ الجبلي التقليدي، رمز البطولة والرجولة. فالمشروع التقدمي لزعيم استثنائي، لم يعد يتماشى مع الواقع السياسي للبنان الثمانينات الذي أخذ يميل باتجاه طائفية ضيّقة، أكثر من اتصاله بمشاريع سياسية كبرى.
الزعيم الآخر الذي تتناول الباحثة اللبنانية صوره بالتحليل هو بشير الجميّل الذي اغتيل في الرابعة والثلاثين من عمره، بعد أن انتخب رئيساً للجمهورية. تكتب زينة معاصري في هذا الصدد: «هناك صورة فوتوغرافية لبشير الجميّل تظهره محمولاً على اكتاف شبّان يمجّدون بطلهم، وقد نقّحت لاحقاً لتبرز فقط الرئيس الفائز، تحيط به الأيدي. تلك الصورة الفوتوغرافية التي نشرت في هيئة ملصق أدخلت تلك اللحظة في تاريخ لبنان. وأعيد انتاجها كل سنة تقريباً. ولا يزال الملصق منتشراً الى اليوم على جدران حيّ الأشرفية في بيروت الشرقية». وعلاوة على الملصق الفوتوغرافي الشهير صمّم عدد هائل من الملصقات حداداً على غياب الزعيم الشابّ. ففي أحد الملصقات التي تخلّد ذكرى اغتياله، تحاط صورته الفوتوغرافية بهالة بيضاء تذكّر بصور القديّسين، وتستعار في صنع هذه الأيقونة تمثيلات الشخوص المسيحية المقدّسة. شمس تنشر أشعّتها من خلال الغيوم، وتمنح البركة عبر نورها المقدّس على خريطة لبنان.
لا ترفع الملصقات صور الزعماء اللبنانيين أبطال الحرب الأهلية وحسب، وإنما تفسح في المجال أيضاً لإحياء ذكراهم. ذلك أن «تيمتا» الزعامة، وإحياء الذكرى في ملصقات لبنان السياسية، ترتبطان بعلاقات متبادلة، واسعة النطاق. فهناك أكثر من ملصق للحزب السوري القومي الاجتماعي يبرز مولد أنطون سعادة في الأول من آذار (مارس)، وتتفجّع ملصقات أخرى على استشهاده في الثامن من تموز (يوليو).
وفي الوقت نفسه أنتجت التنظيمات الناصرية في لبنان عدداً من الملصقات التي تحتفي بمولد الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر(1918 - 1970 )، أو تتفجّع على وفاته. وأنتج حزب الكتائب اللبنانية ملصقات، منها ملصق أصدرته قواتها عام 1983 تحت عنوان «13 نيسان فجر الحرية». ملصق يذكّر ببدء النزاع المسلح، ويتوافق مع حادثة عين الرمانة، إذ قام رجال من حزب الكتائب بمهاجمة حافلة تقلّ ركّاباً فلسطينين بعد مقتل أحد رفاقهم بالرصاص، ما أدّى الى مقتل نحو ثلاثة وثلاثين شخصاً منهم.
الشهادة في السياق نفسه، «تيمة» أخرى واسعة الانتشار، حاضرة بقوّة في عدد كبير من الملصقات. فقد شهدت الحرب الحرب الأهلية اللبنانية، في شتى مراحلها بروز العديد من الأطراف والجبهات المتحاربة. وقد تبارت الأحزاب السياسية في إعلان مشاركتها الحماسية في القتال، عبر عدد من الشهداء الذين قدّمتهم على ما تزعم في سبيل القضية. ملصق الشهيد الأكثر شيوعاً، هو صورة فوتوغرافية للفقيد. وتقترن الصورة باسم المقاتل، ونبذة عن حياته، والمعركة التي استشهد فيها. مثلاً «استشهد في معارك المتن الشمالي في 11/5 / 1980 « دفاعاً عن وحدة لبنان وانتمائه القومي. وهنا يضاف الاسم مبجّلاً على نحو نمطي، بدءاً من عبارة «البطل الشهيد» وصولاً الى عبارات أكثر شاعرية من قبيل «يفتخر بك الحزب بطلاً، وتفتخر بك الأرض شهيداً». وخلافاً للتيمات التي عالجتها الباحثة اللبنانية يبرز التمثيل الغرافيكي للانتماء، أو بالأخرى لعلاقة ال «نحن» وال «هم» أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عملية «أبلسة» تستوجب تجريد الآخر من كل صفاته الإنسانية. ذلك أن المتقاتلين الذين كانوا في صفّين متقابلين اتهم بعضهم بعضاً بأحقر الصفات. يظهر ذلك على سبيل المثال في ملصق نشر عام 1983 لحظة مواجهة بين القوات اللبنانية ومن ضمنها الكتائب، ومليشيات الحزب التقدمي الأشتركي. يصوّر الملصق درزياً في ثوبه التقليدي الجبلي، يشهر سكيناً في وضع مهدّد، ونقرأ في أسفل الصورة «القاتل». ويقابل صورة الدرزي صورة أخرى لمقاتل، يرتدي لباس الميدان الحديث، وفي أسفل الصورة كتبت كلمة «المقاتل».