الفصل الأوّل
أطر انتاجية وجمالية
بخلاف شتّى الاتجاهات الجماليّة للملصقات السياسيّة في تاريخ العالم، من إنتاج الواقعيّة الاشتراكيّة السوفياتيّة والواقعيّة النازيّة من بين أمثلةٍ أخرى، لم تشكّل الملصقات السياسيّة للحرب الأهليّة اللبنانيّة بذاتها نوعاً جمالياً وطنياً موحّداً مرتبطاً بالخصوصيّة المحلّية وواقع الحرب. العامل الجلي هو غياب صوتٍ مهيمنٍ وحيدٍ وجهازٍ إعلاميٍّ رسمي يخصّّ الدولة، يتيح لملصقٍ سياسي موحّد أن يتبلور، حسب السيناريو النمطي الذي أعقب ثورات وحروب خاضتها الدول بشكل عام. أفرزت الحرب الأهليّة اللبنانيّة جماعاتٍ سياسيّةً متمايزة، لها أحزابها الخاصّة التي تعمل كصوتٍ رسمي لكل جماعة، وتدير مكاتبها الإعلاميّة الخاصّة. وجسّدت الأطر الإيديولوجيّة المختلفة لشتّى الأحزاب، وتحالفاتها المتنوّعة مع القوى السياسيّة الدوليّة والإقليميّة، مفرداتٍ جماليّة متباينة. ولعلّ غياب مركزٍ وحيدٍ مهيمن وإجماعٍ على الهُويّة الوطنيّة، يتجلّى في مستوى التشظّي الجمالي للملصقات خلال الحرب. حيث إن اللّغة الجماليّة للملصق، تشكّل جزءاً متلازماً مع الخطاب الحزبي والرسالة السياسيّة.
وفضلاً عن غياب أسلوبٍ موحّدٍ لملصقٍ سياسي لبناني، فمن الخطأ أن نفترض أنّ الحرب الأهليّة شكّلت انقطاعاً عن الممارسات الجماليّة السابقة في إطار الثقافة البصَريّة المحلّية، أو أنها استهلّت حركاتٍ جماليّة جديدة. لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، إغفال الغزارة التي تميّزت بها الملصقات السياسيّة بين العامين 1975 و1990، أو إغفال كون الخطابات والتداعيات البصَريّة كانت مرتبطةً على نحوٍ لا يمكن إنكاره بالنزاعات المتصاعدة وبناء الهُويّات السياسيّة (كما سنناقش ذلك مطوّلاً في الفصول الأربعة التالية). على مستوى الشكل الجمالي، فقد استفادت الملصقات السياسيّة من مختلف الممارسات البصَريّة المعاصرة في لبنان والمنطقة العربيّة، بدءاًً بالفن التشكيلي المعاصر والرسوم التوضيحيّة والرسوم الكاريكاتوريّة السياسيّة، ووصولاً إلى لوحات الأفلام الإعلانيّة الشعبيّة. هذه الممارسات عيّنت التصنيفات الجماليّة السائدة لملصقات الحرب الأهليّة اللبنانيّة. على هذا النحو، طبعت جماليّة الملصقات الممارسات الاحترافيّة لصانعيها، كما هو حال شبكات التعاون والتحالفات السياسيّة بين الأطراف السياسيّة اللبنانيّة، وغيرها من الحركات السياسيّة الدوليّة والإقليميّة.
يقدّم هذا الفصل دراسةً تحليليّةً للأنواع الجماليّة السائدة الخاصّة بالملصقات السياسيّة في لبنان زمن الحرب. وفي الوقت الذي سنعيّن فيه سمات كل نوع، سنعالج الممارسة الاحترافيّة والأساليب الجماليّة الفرديّة لبعض أهم صانعي الملصقات، في سياق انضمامهم إلى نضالٍ سياسي معيَّن، إضافةً إلى المؤثّرات الجماليّة الدوليّة والإقليميّة التي طبعت ملصقاتهم. قبل الانتقال إلى الأنواع الجماليّة، سنتناول أولاً دور المكاتب الإعلاميّة في الأحزاب السياسيّة لرصد وساطتها في إنتاج الملصقات السياسيّة وتجسيدها جماليّاً.
دور مكاتب الإعلام في الأحزاب السياسيّة
غالباً ما اهتمّت مكاتب الإعلام في معظم الأحزاب اللبنانيّة بمنشورات الحزب، سواء كانت صحفاً أو دورياتٍ أو أدبيّاتٍ أخرى (1) لكنّ الأحزاب لم تنشئ أقساماً للفنون البصَريّة، ولم تستخدم خبراء متفرّغين في هذا المجال. فقد كان معظم موظّفي الإعلام في الأحزاب اللبنانيّة صحافيين أو مفكّرين، أعضاءً في المكتب السياسي، كتّاباً لامعين، قريبين من خطاب الحزب وأدبيّاته. ومع ذلك، تضمّنت مسؤولياتهم إصدار الملصقات إضافةً إلى منشورات الحزب الأخرى (2) وكثيراً ما عمل موظف الإعلام ككاتبٍ دعائي، يؤلّف النصوص والشعارات ويعالج الإخراج الفني للملصقات. ما يفسّر، جزئيّاً، غزارة الملصقات المعتمدة كلياً على الخطّ العربي خلال الحرب الأهليّة، وأولويّة الشعارات والنص في الملصق السياسي عموماً. هذا النص يتميّز غالباً ببلاغة مشحونة سياسياً، وشعارات وجدانيّة مؤثّرة، واقتباسات من مؤسّس الحزب أو شعراء معاصرين، وكذلك إحالات إلى الشعر العربي التقليدي.
يعدُّ الملصق المرتكز على الخط، في لبنان والعالم العربي، استمراراً لممارسةٍ قديمةٍ بوسائل إنتاج حديثة. كانت الكلمات والخطوط العربيّة مغروسةً في ثقافة الشارع والمشهد المعماري للمدن العربيّة. فقد كان للكلمة المخطوطة فعاليّتها الجماليّة والرمزيّة والإبلاغيّة في المجال العام سواء على هيئة آياتٍ قرآنية تزخرف واجهات المساجد والقصور والمباني والصروح الرمزيّة، أم، في الأزمنة الحديثة، على هيئة يافطاتٍ عامّة تنتصب في الشوارع تعبيراً عن موقف سياسي علني. سبقت اليافطة الملصق في العالم العربي كوسيلة معاصرة لنشر الرسائل السياسيّة في الفضاء العام، واحتلال الشوارع في لحظات النهوض الشعبي، وإدارة الحملات السياسيّة. وتكمن قيمتها في أسبقيّة الكلمة في التعبير الشعبي، وفي الخاصّية الجماليّة المنسوبة إلى الخطّ العربي، وهي تختلف في طرازها وتعقيدها الشكلي تبعاً لنمط الرسالة. ولهذا، شكّلت اليافطة محتوى لغة الشارع في غالبيّة المدن العربيّة منذ العقود الأولى للقرن العشرين (3) وقد اتّبع الملصق في لبنان المبادئ المشابهة لليافطة في أسلوب الخطّ ونمط الرسالة. ونظراً لمحدوديّة حجمه واتساع طباعته، شاع استخدام نوع الملصق هذا خلال الحرب الأهليّة لسهولة إصداره وزهد سعر تنفيذه بالنسبة إلى الحزب.
أمّا عمليّة الإخراج الفني للملصقات التي يقوم بها المولوجون بالإعلام، فتستخدم أخصائيّين وخطّاطين ورسّامين يتولّون معالجة أفكار محدّدة بصرياً، أو يتم تنفيذها مباشرةً في مطبعة موالية. لم تمتلك غالبيّة الأحزاب مطابع خاصّة بها، لكنها بدلاً من ذلك احتفظت بعلاقات عمل وثيقة، خصوصاً مع المطابع الموالية للحزب، وتلك القريبة من مركز قيادته، أو الواقعة في المناطق التي يسيطر عليها سياسيّاً وعسكريّاً. هكذا أصبحت بعض المؤسّسات مطابع «رسميّة» لبعض الأحزاب، فقامت مطبعة رعيدي، على سبيل المثال، كونها مطبعة معروفة في المنطقة الشرقيّة من بيروت وتقع بالقرب من مركز قيادة حزب الكتائب، بطبع معظم منشورات حزب الكتائب والقوّات اللبنانيّة. من جانبٍ آخر، نجد أن مطبعة تكنو برسTechno Press، وهي مؤسّسة طباعيّة رئيسيّة أخرى انتقلت إلى بيروت الغربية أثناء الحرب الأهليّة، وضعت خدماتها في تصرّف الأحزاب اليساريّة الناشطة في المنطقة الغربية من المدينة ، أي التنظيمات الفلسطينيّة والحزب التقدّمي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني. وقد قدّمت خدماتها مجاناً للحزب الشيوعي اللبناني، لأن مالك المطبعة وغالبية عمّالها كانوا أعضاء ناشطين فيه.
إن الملصقات التي نُفّذت في المطبعة وصمّمها على عجل أعضاء مكاتب الإعلام الحزبية، تشكّل القسم الأكبر من ملصقات الحرب الأهليّة، حيث أنتجت تحت ضغط الزمن وظروف محدوديّة الاتصال والتنقّل أثناء الحرب. واتّبعت بشكل عام تصاميم أساسية وقوالب نمطيّة في تكوينها، طبّقت بتواتر على مواضيع متكرّرة. تلك الأشكال المتّحدة كانت شائعة الاستخدام في ملصقاتٍ تعتمد على صور الشهداء والزعماء السياسيّين. إذ تكون الصورة المركزية صورةً فوتوغرافيةً للشخص المعني، تصاحبها شعارات الحزب النمطيّة والمعلومات المتصلة به. (انظر أشكال الفصلين الثاني والرابع).
على نحوٍ آخر، وفي مناسباتٍ خاصّة مثل الذكرى السنويّة للحزب أو ذكرى وفاة / اغتيال زعيم سياسي أو إحياء ذكرى حوادث مهمّة، يُطلب من فنّانٍ أن يتطوّع بعملٍ فنّي لملصق. يعتمد ذلك على شبكة علاقات الحزب مع فنّانين من لبنان والالتزام السياسي لفنّانين معاصرين، وهو ما سنتناوله في الأقسام التالية.
فنّانون ملتزمون من اليسار العربي
ملأت ملصقات المقاومة الفلسطينيّة جدران المدن اللبنانيّة منذ نهاية الستّينات، ممهّدة الطريق أمام الملصقات السياسيّة للحرب الأهليّة اللبنانيّة. فقد قدّمت نموذجاً بالمعنى الجمالي، وساهمت في الخطاب الثوري وتداعياته البصَريّة في ما يخصّّ الكفاح المسلّح والمقاومة الشعبيّة. انطبق ذلك بصورة خاصّة في لبنان على الأحزاب القوميّة العربيّة واليساريّة، المتحالفة مع التنظيمات الفلسطينيّة التي قاتلت على الجبهة نفسها. كما أفرز التحالف بين الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والتنظيمات الفلسطينيّة شبكاتٍ إعلامية، وتعاوناً على الصعيد الفني، بحيث صمّم عددٌ من الفنّانين ملصقات المقاومة الفلسطينيّة والأحزاب اللبنانيّة التي ينتسبون إليها. يؤدّي ذلك إلى صعوبة الفصل بين المقاربات الجماليّة للملصقات السياسيّة الخاصّة باليسار اللبناني، وتلك التي تمركزت حول الكفاح الفلسطيني. سنناقش في ما يلي السياق (السياسي والجمالي) الذي انبثقت عنه الملصقات السياسيّة العربيّة، ونركّز في الوقت نفسه على أمثلة لفنّانين وملصقات ذات صلة مباشرة بالحرب الأهليّة اللبنانيّة.
في أعقاب الهزيمة العسكريّة القاسية التي أحاقت بالدول العربيّة في مواجهة إسرائيل في العام ١٩٦٧، شهد لبنان صعود حركات المقاومة الفلسطينيّة. واقترن الكفاح من أجل تحرير الوطن المغتصب، وكان الشغل الشاغل للعديد من الحركات، بنشاط إعلامي منظّم للدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة. تأسّس مكتب الإعلام الموحّد التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، في بيروت، واشتمل على قسمٍ للفنون الجميلة زوّد المنظّمة بالأنشطة ذات الصلة بالفن، ومن ضمنها إصدار الملصقات. لم يُعِقْ ذلك إنتاج ملصقات التنظيمات والحركات المدنيّة الفلسطينيّة الأخرى، علاوة عن الفنّانين العرب والعالميّين المستقلّين. ولعبت الملصقات، ضمن وسائل أخرى، دوراً رئيسياً في إيقاظ الهُويّة الوطنيّة أو الحفاظ عليها، وتعبئة الشبيبة للمشاركة في المقاومة بفعاليّة، وكذلك الدعوة لتضامن دولي مع الشعب الفلسطيني في كفاحه للتحرر والعدالة الاجتماعيّة.
حين جرى ترحيل منظّمة التحرير الفلسطينيّة من الأردن إلى بيروت مطلع سبعينات القرن العشرين، لاقت الأخيرة تأييداً وحماسةً لدى الأحزاب اللبنانيّة اليساريّة والقوميّة المتحالفة، ولدى الفنّانين والمثقّفين، إضافةً إلى حركات الشبيبة الراديكاليّة في ذلك الوقت. في تلك الحقبة، كانت بيروت الستّينات تعيش عصرها الذهبي بوصفها مركزاً كوسموبوليتياً للعالم العربي. فتنت المدينة رجال الأعمال والسيّاح والفنّانين والمثقّفين من المنطقة، ودعتهم لمشاركتها في مغامرتها الحداثيّة.كانت المدينة تشهد حالة ازدهار حقيقي على المستويين الفنّي والثقافي: مهرجانات عالمية (موسيقى، مسرح، رقص، غناء)، معارض فنّيّة ولقاءات وندوات وإصدارات دوريّة، إضافة إلى تجارب المسرح البديل ودور النشر الغزيرة الإنتاج ومعارض الكتاب العربي... كل ذلك خلق مناخاً من الحرية التي كان يفتقر إليها المثقّفون والمبدعون في البلدان العربيّة المجاورة، وجعل من بيروت الستّينات مركزاً ثقافياً للعالم العربي. في الوقت الذي كانت فيه «باريس الشرق» تستثير دهشة قاطنيها وزوّارها، باقتصادها المزدهر، وتمثّلها لنماذج الغرب الاستهلاكية، وأساليب الحياة المعاصرة، كان جزءٌ كبير من السكّان اللبنانيين يجاهر بحرمانه ويطالب بإصلاحاتٍ اقتصادية، واجتماعيّة وسياسيّة. في وصف صعود الحركات الاحتجاجيّة، الإضرابات والتظاهرات التي اكتسحت البلد في ذلك الوقت، يلاحظ فوّاز طرابلسي أنها: «كانت أكثر بكثير من حركة احتجاج، كانت استجواباً جذرياً للمجتمع اللبناني والمجتمعات العربيّة، من وجهة نظر أخلاقيّة وثقافيّة، أثّرت فيها بقوّة هزيمة حزيران / يونيو ١٩٦٧، وانبثاق المقاومة الفلسطينيّة وأحداث أيار / مايو ١٩٦٨ في فرنسا»(4).
هذا المناخ الفنّي الخصب في بيروت والمدن العربيّة الأخرى، مقترناً بدرجة حادّة من التسييس، أوجد تربةً خصبةً لتطوّر الملصقات السياسيّة. رأى الفنّانون الملتزمون سياسيّاً في الملصق منبراً عامّاً للتعبير عن مواقفهم، وتوسيعاً لحقل ممارستهم الفنّية، إذ نقلهم من جدران المعرض المغلق إلى فضاء المدينة الرحب. هكذا، ساهم عددٌ كبير من الفنّانين العرب البارزين ــ فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وعراقيين ومصريين، من بين آخرين ــ بحماسة شديدة في تصميم الملصقات السياسيّة وتطوير معايير جماليّة مميّزة. كانت الملصقات السياسيّة المؤيّدة للقضيّة الفلسطينيّة جزءاً من حركةٍ مزدهرة للفن الملتزم سياسياً، اقتضت مشاركة الفنّانين وصانعي الأفلام والمثقّفين العرب في صراعات المنطقة السياسيّة الاجتماعيّة: حركات التحرّر المناهضة للامبرياليّة، الهُويّة العربيّة، الصراع الطبقي وغيرها من أشكال العدالة الاجتماعيّة (5) هذه المشاركة الفعّالة وغير المسبوقة أعادت الاعتبار إلى الملصق بوصفه عملاً فنّياً، وتجلّى ذلك في دعم مؤسّسي من قبيل إقامة مسابقات ومعارض ومنشورات على صعيد دولي. استهلّها معرضٌ نظّمته منظّمة التحرير الفلسطينيّة، مكتب الإعلام الموحّد، أطلق عليه اسم المعرض الدولي من أجل فلسطين، وأقيم في جامعة بيروت العربيّة في آذار / مارس ١٩٧٨؛ تبعه في العام التالي معرضٌ آخر في المكان نفسه، بعنوان معرض الملصقات الفلسطينيّة ١٩٦٧-١٩٧٩.
من بين البلدان العربيّة، كان العراق سبّاقاً منذ سبعينات القرن العشرين في تطوير الملصق كشكلٍ لفنٍ غير معترف به، من خلال إطلاق معارض ملصقاتٍ ترعاها الدولة، وبمشاركة فنّانين عراقيين مرموقين في تلك المرحلة. من بين أولئك الفنّان ضياء العزّاوي الذي قام إلى جانب مشاركته في تصميم الملصقات وتنظيم المعارض، بتأليف كتابٍ في العام ١٩٧٤، ربما كان الأول من نوعه في العالم العربي، بعنوان: فن الملصقات في العراق، دراسةٌ في انطلاقته وتطوّره ١٩٣٨-١٩٧٣(6)، واصل العراقيون نشاطهم على هذه الجبهة، فنظّموا في العام ١٩٧٩ «معرض بغداد الدولي للملصق»، ومن ضمن فعاليّاته مسابقة دولية للملصق يشرف عليها محكِّمون، تمحورت حول ثيمتين: «كفاح العالم الثالث من أجل التحرّر» و«فلسطين، وطن محرّم».
في ظل غياب تدريبٍ أكاديمي على التصميم الغرافيكي في لبنان آنذاك، قفز إلى الواجهة فنّانون تشكيليّون، معروفون غالباً، ليتصدّروا تصميم الملصقات السياسيّة. وغالباً ما قدّم الفنّانون المعاصرون البارزون في لبنان مساهماتهم للأحزاب السياسيّة اليساريّة والقوميّة العربيّة المتكتّلة في إطار الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. تَوافَق ذلك مع نزوع الفنّانين العرب إلى الالتزام السياسي في نهاية ستّينات القرن الماضي. وكما أشرنا آنفاً، تجسّدت الحماسة السياسيّة مبكّراً على هيئة ملصقاتٍ تدعو للتضامن مع القضيّة الفلسطينيّة، ما مهّد الطريق أمام انخراط الفنّانين بتصميم الملصقات السياسيّة أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
كانت المساهمات الفنيّة متفرّقة، ولم تشكّل تدفّقاً منتظماً في إنتاج الملصق، بحيث يتمأسس داخل شبكة إعلام الأحزاب اللبنانيّة. غالباً ما كان العمل الفنّي للملصق من صنع متطوّعين، وشكّل أحد جوانب ممارستهم الفنّية التي حاول الفنّانون الإبقاء عليها طيلة الحرب. تمّ تمثُّل الملصق عموماً كفعل نضالٍ سياسي والتزامٍ بقضيّة عن طريق الفن، أكثر منه عن طريق العمل الاحترافي، باعتراف العديد من الفنّانين وموظّفي الإعلام. فضلاً عن أن اتصال الفنّانين بالأحزاب لم يكن عمليّةً يسيرةً دوماً، لأن الصلات بين الجماعات اللبنانيّة المختلفة تعرّضت للتمزُّق خلال الحرب. حافظ بعض الفنّانين على صلات غير رسميّة مع الأحزاب، وفضّلوا المساهمة بملصقاتٍ مغفلة الاسم بغرض عدم تعريض علاقاتهم المهنية والاجتماعيّة للخطر. أكثر من ذلك، قطع العديد من الفنّانين روابطهم الحزبية مع انخراط ميليشيات حزبهم بعمليّات انتقامٍ بشعة، واعتداءات طائفيّة، في مجريات الحرب وتطوّراتها.
لم يكن لملصقات اليسار السياسيّة في لبنان، نوع جمالي موحّد. فمثلما هو حال الملصقات الفلسطينيّة، اقترنت مساهمة كل فنّان بأسلوبه المعروف سابقاً. كانت ملصقات الفنّانين متنوّعةً جمالياً، مثلها في ذلك مثل المقاربات التشكيليّة لصانعيها. إذ كثيراً ما تم تمثُّل الملصق بوصفه لوحةً معقَّدةً جمالياً. فعلى نحوٍ نمطي، كان الفنّان يشكّل لوحته أو رسمه قبل أن يكيّفها مع الملصق، بحيث يكون النص إضافة جانبيّةً إلى عمل الفنان. أساساً، لم يكن الفنّانون عموماً يمعنون النظر فعليّاً في عمليّة تصميم الملصق، بل كانوا بالأحرى، يقدّمون أعمالهم الفنّية لتنشر على هيئة ملصق. كما أنهم طوّروا ملصقاتٍ تعتمد على مشاغلهم الفنّية الخاصّة التي اندمجت في كثير من الحالات مع اهتماماتهم السياسيّة، ولا يتعلّق الأمر بطبيعة الموضوع فحسب، بل كذلك بمستوى اللغة التشكيليّة. كانت تلك الاستكشافات الفنّية متزامنةً مع الاتجاه العام للفن المعاصر في العالم العربي، المنشغل بالبحث عن علاقةٍ بينه وبين موقعه وتاريخه. ارتبط البحث عن الهُويّة لدى الفنّانين العرب المعاصرين، على نحوٍ وثيق، بالعوامل الثقافيّة والسياسيّة والإقليميّة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. فمع صعود حركات التحرّر ومشاريع بناء الاستقلال، شهدت الدول العربيّة صحوة قوميّة، وطرحت أسئلة الهُويّة الثقافيّة على نطاق واسع. في مجال الفن بشكل خاص، كما تلاحظ وجدان علي:
كان الانبعاث الثقافي قد أدّى إلى المرحلة الثالثة من تطوّر الفن المعاصر في العالم العربي. سبقت هذا البحث عن هويّةٍ قوميّة، عقود عدّة من التجانس الأسلوبي، في وقت كان فيه التقليد الغربي هو المبدأ الموجّه، أكثر مما كانه التجريب.
[...] أغرتهم [الفنّانين] تلك المفارقة الثقافيّة على تطوير لغةٍ محلّية للفن، قائمة على عناصر تقليدية من الفن العربي ــ تتضمّن الأرابيسك والمنمنمات الإسلاميّة الثنائية البعد، والخط العربي، وأيقونات الكنائس الشرقيّة، والرسوم الأثريّة، والأساطير القديمة والمعاصرة، والحكايا الشعبيّة، والأدب العربي، والأحداث السياسيّة والاجتماعيّة ــ وكذلك على توظيف وسائل وأساليب للتأويل معاصرة (7).
برزت تلك الإبداعات الفنّية على وجه الخصوص في مساهمات الفنّانين العرب المعاصرين، في الملصقات التي تركّز على الكفاح الفلسطيني. ووجدت هذه الممارسة صداها في عددٍ من ملصقات الحرب اللبنانيّة، بحيث حوّل الفنّانون المحلّيون أعمالهم الفنّية من قماش اللوحة إلى الملصق. نورد هنا تجربة عمران القيسي (١٩٤٣) مثالاً. فالفنّان العراقي الأصل الذي عاش في لبنان، استلهم المدرسة الحروفيّة التي احتلّت موقعاً مهمّاً في الحركة التشكيليّة العراقية، مطلع السبعينات، وازدهرت في إطارها تجارب أساسيّة في الفن العربي المعاصر. اقترنت تلك الخيارات البصَريّة بالوعي السياسي لأصحابها، مثلها في ذلك مثل الدعوة إلى استلهام روح التراث العربي-الإسلامي في إيحاءات الخطّ وهندسة الأرابيسك. اشتغل القيسي، خلال النصف الأول من الثمانينات، على الملصقات التي مجّدت المقاومة الوطنيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتمحورت خصوصاً على التضامن مع مدينة صيدا الساحلية الجنوبية (الشكلان ١ و ٢). اتخذت بعض ملصقاته أشكالاً غرافيكيّة مجرّدة، مبرزةً الخطّ العربي المتقن ومواضيع الزخارف الإسلاميّة التي اختبرها الفنّان في لوحاته ورسوماته الخاصّة.
أمّا الفنّان اللبناني رفيق شرف (١٩٣٢-٢٠٠٣)، فقد أعاد تكييف ثيمات لوحاته على شكل ملصقات، بمفرداتٍ تشكيليّة مختلفة، تغرف على طريقتها من الموروث الثقافي المحلّي. اشتغل شرف على الأيقونات الأسطوريّة للبطولة العربيّة من الأزمنة الغابرة، كما وردت في الشعر العربي القديم والحكايا الشعبيّة، مطبّقاً إيّاها على اللحظة الراهنة للصراع السياسي. تناولت أولى ملصقاته السياسيّة الصراع العربي مع إسرائيل ومجّدت المقاومة الفلسطينيّة. ومع حلول منتصف الثمانينات، أخذت ملصقات شرف تتمحور حول المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة في نضالها لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي (الشكل ٣).
من جهته، بدأ بول غيراغوسيان (١٩٢٦-١٩٩٣) بتصميم ملصقاتٍ لأحداثٍ ثقافيّة، ثم كان لمساهمات هذا الفنّان اللبناني الأرمني، دور أساسي في تصميم الملصق السياسي خلال الحرب، بعد أن وضع أعماله الفنّية في خدمة الحزب الشيوعي اللبناني والمنظّمات المدنيّة الأخرى الداعمة للمقاومة الوطنيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (الشكلان ٤ و ٥). ملصق غيراغوسيان انطوت تكويناته على رمزيّة مباشرة، على صلة باللغة التشكيليّة التي نقع عليها في رسوماته، إذ صوّرت شخوصاً بشريّة مجرّدة، لا تبدو من ملامحها إلّا حيويّة خطوط الحبر الأسود والبقع اللونيّة الحمراء، وأطياف لأبطال وعمّال مجهولين في كفاحهم من أجل التحرّر.
هؤلاء الفنّانون أبقَوا على القيم الجماليّة للّوحة، أكثر من اعتمادهم على التقنيّات الأسلوبية الخاصّة بالملصق. فالرسالة كانت معقّدةً بصَرياً وقابلة للتأويل، بخلاف ملصق الترويج المصمّم لإيصال الرسالة برشاقةٍ وفعاليّة. ورغم أن تلك المساهمات المختلفة، عكست حسّ انتماء الفنّان وخياراته النضاليّة، فقد ظلّت الممارسة الفنّية التشكيليّة هي شاغله الأساسي، مع مغامرات انتقال عرضيّة من اللوحة إلى الملصق المطبوع. تلك هي الحال، غالباً ،حين يعرض الفنّان صورةً شخصيّةً (بورتريه) مرسومةً تكريماً لزعيمٍ سياسي شعبي. فقد عكس البورتريه، في ملصقاتٍ كهذه، اللغة التشكيليّة المعاصرة للفنّان وتمثيله الجمالي. ولم تكن تلك الملصقات المتمركزة حول صورة شخصيّة، تقليديةً في ما يتّصل بالواقعيّة الرومانسيّة الشعبيّة السائدة، أو التصوير الفوتوغرافي لوجوه الزعماء الشعبيين ومرشّحي الانتخابات.
يمثّل هذا النمط من الملصقات عدداً وافراً من الملصقات المتمركزة حول إحياء ذكرى كمال جنبلاط، مؤسّس الحزب التقدّمي الاشتراكي وزعيم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، عقب اغتياله في العام ١٩٧٧. ساهم عددٌ من الفنّانين المعروفين في توجيه تحيّة إلى الزعيم الراحل، وهم عماد أبو عجرم (١٩٤٠)، وهيب بتدّيني (١٩٢٩)، جميل ملاعب (١٩٤٨)، عارف الريّس (١٩٢٨-٢٠٠٥)، موسى طيبة (١٩٣٩)، (الشكل ٦). كانت مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان موضوع الكثير من الملصقات التي رسمها فنّانون محلّيون بارزون، فيما قامت المنظّمات المدنيّة بإصدار عددٍ من هذه الملصقات، ومنها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. كما جمع المجلس عدداً من المثقّفين اللبنانيين اليساريين ونظّم فعاليّاتٍ ثقافيّةً سنوية، معارض ومؤتمراتٍ ومطبوعات، تمحورت حول ثيمات المقاومة الوطنيّة وأماني التحرّر (الشكلان ٧ و ٨).
فنّانون خاضوا تجربة تصميم الملصق
من جهة أخرى، اختار عددٌ من الفنّانين خوض تجربة تصميم الملصق بوصفها مسعىً إبداعيّاً خالصاً. وعلى نحوٍ خاص، أولئك الذين اكتسبوا إلى جانب ممارستهم الفنّية، خبرةً احترافيةً في التصميم والرسم الغرافيكي. هؤلاء راعَوا في نهاية المطاف المتطلّبات الوظيفيّة للملصق، فاستخدموا مزيداً من الرسوم المبسّطة والتراكيب الغرافيكيّة المخطّطة، ومن ضمنها المونتاجات الفوتوغرافية التي دمجت الرسالة الخطّية / الطباعية داخل نسق ملصقٍ عام. وفي حين تجاوب الفنّانون مع التيّارات التشكيليّة المعاصرة والمتطلّبات الوظيفيّة للملصق، فإنهم لم ينفتحوا تماماً على جماليات حركة التصميم الحديث (Modernism) التي طبعت التصميم الغرافيكي في الغرب خلال الستّينات. وقد قامت هذه الحركة التصميميّة في الغرب على أسُس وظيفيّة بحتة (Functionalism) وعلى هاجس بلوغ لغةٍ عالمية مبسّطة من ناحيةٍ الشكل، من خلال مقاربةٍ عقلانيةٍ للتصميم الغرافيكي على حساب التعبير الشخصي والثقافي للفنان، في حين أدخل الفنّانون العرب إلى الملصق أساليبهم الفنّية المتميّزة وخصوصيّاتهم الثقافيّة.
شكّل الاهتمام بمقاربة تصويرية مبسّطة، وذات خلفيةٍ ثقافيّة،ٍ كمّاً غزيراً من الملصقات الفلسطينيّة. وتجلّى في أعمال برهان كركوتلي (سوريا ١٩٣١-٢٠٠٠) وحلمي التوني (مصر ١٩٣٤). وكان المذكوران بين عددٍ من الفنّانين العرب، ومنهم محيي الدين اللبّاد (مصر ١٩٤١)، جزءاً من مشروعٍ ناهض في مطلع السبعينات، اهتم بتطوير الكتب العربيّة المصوّرة. وكان لـ«دار الفتى العربي»، وهي دار نشر متخصِّصة بكتب الأطفال العربيّة تأسّست في العام ١٩٧٤ في بيروت، دور بالغ الأهمّية في تحديد ملامح الكتب العربيّة المصوّرة الحديثة، وصارت منبراً جمع المواهب الخلّاقة في العالم العربي. كما هيّأت فضاءً لمعالجة قضايا معاصرة، ذات أهمّية سياسيّة واجتماعيّة محلّية، من خلال وسائل الاتصال الغرافيكي الشعبيّة. ركّزت مطبوعات «دار الفتى العربي» التي توجّهت إلى الناشئين، على الهُويّة العربيّة والقضيّة الفلسطينيّة، ودافعت عن أهمّية الكفاح المسلّح لاستعادة الوطن المحتلّ.
انتقلت الرسوم التي تضمّنتها تلك الكتب إلى ملصقات في أحيان كثيرة، من بينها أعمال حلمي التوني الذي عاش في بيروت بين ١٩٧٣ و١٩٨٣. وكان التوني ممنوعاً من مزاولة نشاطه الفنّي في مصر، في عهد السادات، بسبب ميوله السياسيّة، فانتقل إلى بيروت ليعمل مصمّماً ورسّاماً لدى دور نشرٍ محلّية ومؤسّساتٍ ثقافيّة مرموقة. خلال إقامته في لبنان، صمّم ملصقاتٍ لمختلف المنظّمات السياسيّة الفلسطينيّة، وتلك الناشطة في إطار الحقوق المدنية، فضلاً عن الأحزاب اللبنانيّة، القوميّة العربيّة واليساريّة. وكان مركز اهتمامه على وجه الخصوص موضوع المقاومة الشعبيّة، إذ صوّر النساء دوماً في أعماله بوصفهنّ عناصر اجتماعيّة فاعلة (انظر الأشكال ٩). طوّر حلمي التوني أسلوباً تصويريّاً خاصّاً به، يستوحي الموروث الشعبي في التاريخ العربي - الإسلامي، ويعمل على تحديثه. كذلك أغنت الرموز الشعبيّة وتمثيلات العوالم الخياليّة المفعمة بالأمل، رسوماته ذات البناء المستوي البعد، والأشكال المبسّطة التي تحدّدها ألوان دافئة ومشرقة.
أمّا الفنّان السوري يوسف عبدلكي (١٩٥١)، المنفي خارج سوريا آنذاك، فقد عاش في بيروت لسنتين قبل أن يستقرّ في باريس. اشتغل عبدلكي على رسومات كتب الأطفال مع «دار الفتى العربي»، وعلى تصميم الملصق بشكل مواز لمشروعه الفنّي. اتّسمت مساهماته الرئيسيّة في الملصق، ومعظمها للحزب الشيوعي اللبناني الذي كان يميل إليه سياسيّاً، بتراكيب غرافيكيّة مباشرة ومبسّطة، ولو أنها آسرة جماليّاً (الشكل ١٠). وبشكلٍ عام، فقد ساهم بعض أبرز الفنّانين اللبنانيين في ملصقات الحزب الشيوعي اللبناني المتنوّعة. نشير إلى سمير خدّاج (١٩٣٨)، وسيتا مانوكيان (١٩٥٤)، وإميل منعم (١٩٥١)، وحسين ياغي (١٩٥٠)، فضلاً عن ملصقات غيراغوسيان التي تناولناها آنفاً. انهمك هؤلاء الفنّانون في تصميم ملصقات التنظيمات الفلسطينيّة وشكّلوا في ما بينهم فضاءات عمل مشتركة. وقد أحرز بعضهم، مثل إميل منعم، خبرة واسعة في مجال التصميم الغرافيكي من خلال تجربة العمل على الملصق السياسي، وأصبح في نهاية المطاف من أهل المهنة. كما أن منعم صمّم خطوطاً طباعيّة عربيّة خاصّة به، وهو يوضح أنّ اهتمامه بالخطّ العربي ولد من خلال عمله على تصميم الملصقات، إذ شعر بالحاجة إلى ابتكار خطوطٍ عربيّة معاصرة تلائم تركيب كل ملصق (الشكل ١١). من جانبه، مثّل كميل حوّا حالةً مماثلة للفنان الذي حوّل وجهة صنعته نحو التصميم الغرافيكي، مدفوعاً بمزاولته تصميم الملصق السياسي في أولى مراحل الحرب (8) من جهةٍ أخرى، كانت ميول حوّا السياسيّة قوميّةً عربيّة، ما دفعه لتصميم عددٍ كبيرٍ من ملصقات الاتحاد الاشتراكي العربي في لبنان، وقد ركّز في معظمها على الكفاح الشعبي. تراوحت ملصقاته بين الرسوم المتقنة والتمثيلات التصويرية المعاصرة، حيث كانت خطوطه العربيّة المكتوبة مندمجةً حركيّاً في التركيب الغرافيكي (الشكل ١٢).
شبكات التضامن: كوبا ــ بيروت ذهاباً وإياباً
تُظهر الملصقات المتنوّعة التي تناولناها حتى الآن، الأسلوب المحدّد للفنّان، وخلفيّته الثقافيّة، وكذلك استجابته لاتجاهات الفن المعاصر في العالم العربي. لكن عدداً من الملصقات السياسيّة العربيّة، تفاعل، في المقابل، مع الاتجاهات الجماليّة التي طبعت ملصقات الحركات الثوريّة والكفاح المناهض للإمبريالية في تلك الفترة، وعلى نحوٍ خاصٍّ ملصقات التضامن التي أصدرتها «منظّمة التضامن مع شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية» (OSPAAAL) التي تأسّست في كوبا. تمكن مقارنة البنية الأسلوبية لهذا الملصق، بشكلٍ أساسي، مع جماليات «البوب آرت» في ستّينات القرن العشرين: تجريدٌ تصويري وألوان فاقعة (9) أرسلت ملصقات المنظّمة إلى لبنان بالتنسيق مع مختلف التنظيمات الفلسطينيّة وأحزاب اليسار اللبناني المتحالفة، وركّز عددٌ من ملصقات المنظّمة على مواضيع المقاومة الفلسطينيّة، ولبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي سياقٍ محدود، أصدرت التنظيمات الفلسطينيّة بضعة ملصقاتٍ تخصّ التضامن مع القضايا الثوريّة لبلدان أمريكا اللاتينية. وقد أشار الفنّان الكوبي أوليفيو مارتينيز، بكلماتٍ مؤثّرة، إلى قوّة الدفع التي قدّمها التضامن للنضال السياسي في تلك المرحلة:
في مناسباتٍ كثيرة، حضر مندوبو الحركات من القارّات الثلاث إلى كوبا وعبّروا عن سرورهم لاستجابة قوّاتهم المقاتلة وأممهم لملصقٍ نوعي تبنَّوه كأنّما هو خاصٌ بهم. كانت تلك الأوقات من بين أكثر لحظاتي المهنية سعادةً. [....] أشير إلى ملصقي للعام ١٩٧٢ للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ومن شدّة إحساسهم بصدق تلك الصورة، استخدموها غلافاً لمجلة فتح [...] بينما كانوا يستعينون بها شعار افتتاحية المنظّمة في النشرة. وقد أعجبوا بالرسم إلى درجة أنّ فيدل قدّم لياسر عرفات النسخة الأصلية، في واحدةٍ من زياراته إلى كوبا (10).
لم تكن اللغة البصَريّة للعديد من ملصقات المقاومة الفلسطينيّة تستجيب للغرافيك الكوبي فحسب، بل تماثلت أيضاً مع التداعيات البصَريّة المتعلّقة بالكفاح المسلّح والمقاومة الشعبيّة والخطاب الثوري، والفدائي-البطل: بنادق الكلاشنكوف، قبضة مشدودة، في مواجهة القوى الإمبريالية. احتفظت هذه الجماليّة التي شاعت أيضاً ضمن ملصقات اليسار اللبناني، بدلالات خطاب اليسار العالمي في تلك الحقبة. في لبنان، لم يقتصر ذلك الخطاب على الاتجاهات الماركسيّة، بل طاول أشكالاً أخرى من النضال المناهض للإمبريالية والصهيونيّة، تلك التي راكبت نضالات التحرّر الثوريّة مع الخطاب الوحدوي العربي(الشكل ١٣). على هذا النحو، تبنّت الأحزاب القوميّة العربيّة هذه اللغة الغرافيكيّة بقدر ما تبنّتها الأحزاب ذات التوجّهات الماركسيّة. كما وفّرت التحالفات السياسيّة بين كوبا والحركات الثوريّة في البلدان العربيّة، شبكات التبادل الفنّي. فالاتحاد الاشتراكي العربي في لبنان، على سبيل المثال، أرسل ممثّلي الطلبة من الحزب إلى مؤتمر الشباب في كوبا المنعقد في العام ١٩٨١. وفي هذه المناسبة، أنتج المصمّم كميل حوّا ملصقاً متعدّد اللغات يلقي الضوء على الدعم الكوبي والعلاقة التي ربطت بين عبد الناصر وكلٍّ من تشي غيفارا وفيدل كاسترو. كذلك نظّم ممثلو لبنان في المؤتمر في كوبا، معرِضاً للملصقات بعنوان: معرِض ملصقات الدفاع عن ثورة فلسطين وعروبة لبنان (الشكلان ١٤ و ١٥).
رسوم كاريكاتور: هجاء سياسي ساخر
ميّزت مساهمات العديد من رسّامي الكاريكاتور في تصميم الملصق، نوعاً فنّياً آخر من الملصقات السياسيّة للحرب الأهليّة اللبنانيّة. فهذا الصنف من الملصقات هو الأكثر مباشرةً على الأرجح. ظهرت الرسوم الهزلية السياسيّة في الصحافة العربيّة منذ مطلع القرن العشرين. ومع مرور السنين اكتسبت شعبيّةً وأرست مكانةً لنفسها بوصفها ممارسة خلاّقةً معترَفاً بها، تدمج المهارات الفنّية والبلاغة السياسيّة، وتستهدف جمهوراً واسعاً. في ضوء ذلك، لن يكون مفاجئاً توسّع هذا الأسلوب الفنّي ليشمل الملصقات السياسيّة التي انطوت على قدْر أكبر من التعبير السياسي المباشر، عبر ترتيبات تكوينيّة مثقلة بالعلامات الرمزيّة. جسِّدت تلك العلامات في رسوم مجازية مبسّطة اعتمدت على رموز سياسيّة تقليديّة وتصاوير حرفيّة للمتخيَّل الجمعي الخاص بالجماعات المستهدفة. كما وظّفت الرسوم، الممهورة بأساليب مختلف المبدعين، تقنيّات المبالغة التي تركّز على الرسالة السياسيّة وعلى معالم الموضوع الرمزيّة، هي تتراوح بين التمجيد والتعظيم البطولي من جهة، والكاريكاتور الساخر والهجاء السياسي من جهة أخرى. ومع أنّ عدداً من رسّامي الكاريكاتور المحلّيين كان ناشطاً على هذه الجبهة، فإننا سنسلّط الضوء في دراستنا على هذا النوع من الملصق، من خلال أعمال اثنين من أبرز رسّامي الكاريكاتور السياسي في لبنان، أنتجا عدداً كبيراً من الملصقات أثناء الحرب: بيار صادق ونبيل قدوح.
يعدّ بيار صادق شخصيّةً رياديةً في الرسم الهزلي السياسي في لبنان، حيث نال العديد من الجوائز وتقديراً دوليّاً لهجائه السياسي في الصحافة اليومية. وقد نشر كتاباً في العام ١٩٧٧، ضمّنه الرسوم الكاريكاتورية والتعليق المباشر على سياسة الحرب الأهليّة، بعنوان «كلّنا على الوطن»، وهو محاكاة ساخرة للنشيد الوطني «كلّنا للوطن». يعتبر صادق مدافعاً حازماً عن القوميّة اللبنانيّة، وقد تطوّع بمهاراته لإنتاج ملصقات عديدة تعلي شأن الجيش اللبناني. كما ساهم بعدد كبير من الملصقات لمصلحة حزب الكتائب اللبنانيّة وتنظيمه العسكري القوّات اللبنانيّة (الشكلان ١٦ و ١٧). وإسهاماته في هذا المجال ازدادت غزارةً بعد اغتيال بشير الجميّل، إذ تمركزت على تخليد ذكرى الزعيم الراحل. يصف صادق ملصقاته السياسيّة بأنها تكريمٌ لزعيم يكنُّ له تقديراً جمّاً: «الذي تتطابق رؤيته للبنان مع طموحاته الخاصّة» (11) وتأكيداً لإعجابه بالفقيد وحزنه على فقدانه، نشر أيضاً كتاباً مصوّراً في العام ١٩٨٣، كرّسه لذكرى بشير الجميّل.
فضلاً عن الملصقات، شارك بيار صادق في مؤسّساتٍ إعلامية جماهيرية تابعة للقوّات اللبنانيّة خلال ثمانينات القرن المنصرم. فقد رسم أغلفة مجلة «المسيرة»، علاوةً على رسم كاريكاتورات يوميّة لمحطّة تلفزيون LBC (مؤسّسة الإرسال اللبنانيّة). يمكن بسرعة تبيّن أسلوبه في الرسوم الهزلية السياسيّة، وتتبّع آثارها في عمل ملصقه، إذ تقوم تكويناته المركزية على أشكال مبسّطة وهيئات أو صور شخصيّة ظلّية. وغالباً ما تشكّل رسومه بالحبر الصيني خطوطاً قويّة دقيقة متلاصقة ومتقاطعة، فتخلق بالتالي تبايناً بين مساحات الظل ومساحات الضوء. تتراكب العناصر الغرافيكيّة في علاقة لعوب بين السالب والموجب، على خلفية مستوية. وتخلق هذه الوسائل الشكلانية، إضافة إلى التمثيلات الرمزيّة المباشرة في ملصقاته، صورة لافتة للنظر، بالكاد تتطلّب نصّاً لترسيخ الرسالة، وهي مقاربة نموذجية للرسوم الهزلية السياسيّة.
ويمكن القول إن قلّة من الرسّامين المحترفين، من نوع بيار صادق، ساهمت في صنع ملصقات أحزاب الجبهة اللبنانيّة. فكما تظهر مجموعة الملصقات السياسيّة، وكما أكد لنا المسؤولون السياسيون في الأحزاب المشار إليها، كان إنتاج الملصقات ضمن الجبهة محدوداً نسبيّاً قياساً إلى غزارة الملصقات التي أصدرها خصومهم. يعود ذلك لأسباب عديدة سنتناولها في نهاية هذا الفصل. وقد قام هواة برسم ملصقات عدّة نشرت خلال السبعينات، فشكّلت الرسوم الهزلية السياسيّة النوع الجمالي الذي طغى على ملصقات الجبهة اللبنانيّة في تلك المرحلة، واتَّسمت غالباً بمبالغة ساخرة، ورمزيّة ساذجة خلت من براعة بيار صادق.
أمّا نبيل قدوح، وهو كذلك فنّان كاريكاتور متمرّس، فقد نفّذ عدداً كبيراً من الملصقات خلال فترة الحرب الأهليّة. وغالباً ما تبرّع بمساهماته لأطراف الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. وقد نشرت رسومه في جريدة الحركة، «الوطن»، وحثّت مختلف أحزاب الحركة ــ الحزب التقدّمي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة الناصريين المستقلّين «المرابطون» ــ على الاستعانة به لرسم أغلفة مجلّاتها وتصميم ملصقاتها. يزعم قدوح أنه لم يكن مرتبطاً سياسيّاً، ولا نصيراً لأي حزب، ما أتاح له العمل مع أحزاب ذي أطر إيديولوجيّة مختلفة. أصبح الرسم مهنته، كما يقول. ومع ذلك، وبحكم انتمائه إلى الجنوب، فقد أصبح في الثمانينات أكثر ميلاً للعمل على رسومٍ تمثل الانتماء الوطني والمقاومة الشعبيّة للاحتلال. منذ ذلك الوقت، أخذ نبيل قدوح يصمّم معظم ملصقات حركة أمل، في حين ظلّ مواظباً على عدم الالتزام بنشاطات سياسيّة حزبية. فانتماؤه، كما يوضح، قائم على الانتماء المشترك وإعجابه بقادة الحركة (12)
تعاون قدوح مع مكتب حركة أمل الإعلامي تعاوناً وثيقاً لابتكار رسالة كل ملصق؛ إذ إن مسؤول الإعلام يطوّر نصّاً يلهم بدوره مخيّلة قدوح لتصويره. ورسومه، المعتمدة على تخطيط طليق بالحبر وتدرّجات الألوان المائية، غنيّة بتفاصيل الموضوع المعالج، وقد أثمرت ملصقاتٍ تبدو كأنّها حكايا مسرودة بصريّاً تشابه القصص المصوّرة الشعبيّة. أمّا الغرض من ذلك، وفقاً لقدوح، فهو نقل رسالة الملصق عبر تمثيلات بصَريّة مباشرة سهلة المنال بالنسبة إلى جمهور واسع تضمّه مناطق ريفية فيها معدَّلاتٌ مرتفعة من الأمّية. (االشكل ١٨). انتقل نبيل قدوح من خلال رسوماته للملصق من الهجاء إلى الرسوم التعبيرية. وفي نهاية المطاف، مال أكثر وأكثر نحو رسوم الأطفال التي أصبحت مهنته وتخلّى تماماً عن الملصقات السياسيّة قبيل نهاية الحرب.
واقعيّة شعبيّة ومتخيّل سياسي ـ ديني
كلّما اكتسبت أيقونات الزعامة السياسيّة مزيداً من القوّة في الحرب الأهليّة، كان الفضاء العام يعجّ ببورتريهات الزعماء. فضلاً عن الملصقات، طغت البورتريهات المرسومة بأحجامٍ هائلة على المواقع الرمزيّة في مختلف المناطق تبعاً لسيطرة الجماعات عليها. وتضخّمت الظاهرة في الثمانينات، حين شهد البلد مزيداً من الفصل وفقاً للتقسيمات الطائفيّة الصارمة، والمعارك التي نشبت لغرض الهيمنة على المناطق. ما حثّ رسّامي اللوحات الإعلانية المتخصّصين على تنفيذ صور ذات أبعاد هائلة للشخصيّات السياسيّة. محمد موصللي، وهو رسّامٌ عصاميٌّ ابتدأ حياته المهنية في الستّينات برسم بورتريهات مرشحي الانتخابات وإعلانات الشركات، كانت لديه قائمةٌ طويلة من طلبيّات مختلف الأطراف السياسيّة. يحكي موصللي عن تقدير زبائنه من أصحاب المقامات العالية له، ويقول إنّه كان يطلق عليه لقب «ملك البورتريه» (13) ويوضح أنّ البراعة الفنّية لا تعتمد على جعل البورتريه أقرب إلى الواقع فحسب، بل بمنح الشخص جاذبية وجعله أكثر فتنة من الواقع! قام موصللي بإنتاج سلسلة تتراوح بين ٧٠ و١٠٠ بورتريه متشابهة، مرسومة باليد، للشخصيّة السياسيّة نفسها أثناء فترة الحرب. وبذلك، يبدو عمله الدؤوب إنجازاً يدويّاً يوازي وظيفة الإنتاج الآلي للملصق (14)
وإضافة إلى ما سبق، صمّم رسّامو إعلانات الأفلام العربيّة ملصقاتٍ سياسيّة بأسلوب رومانسي مشابه لما هو مخصّصٌ عادةً لترويج الأفلام. محمود زين الدين هو أحد الأمثلة، إذ وسّع مهاراته في الرسم لتشمل الملصقات المطبوعة، بصورة رئيسية لمصلحة الحزب التقدّمي الاشتراكي بحكم انتمائه الدرزي. هكذا أعاد زين الدين توظيف جماليّات الواقعيّة الشعبيّة والرومانسية، السائدين في ملصقات الأفلام وطريقة تصوير النجوم، ليرسم بورتريهات زعماء أسطوريين ومشاهد البطولات الحربية (الشكل ١٩).
شاعت النزعة الرومانسية للرسم الواقعي بين الحركات الإسلاميّة الصاعدة في أوساط الثمانينات. وهي غزيرة على نحو خاص في ملصقات تبجيل شهداء المقاومة الإسلاميّة، الجناح العسكري لحزب الله. طَوال هذا العقد، كان مكتب الإعلام التابع لحزب الله ينفّذ صورة زيتية لكل شهيد، تقدّم إلى أسرته بعد أن تستخدم في صناعة الملصق. اللوحة تمثّل صورة مثاليّة للفقيد، تحيط به سرديّات مفعمة بالقداسة الدينيّة تصوّر الجهاد والشهادة (انظر الفصل الرابع: الشهادة). تعرض الملصقات تركيباتٍ واقعيّة لخلفيّاتٍ خياليّة مشتقّة من مخزون المتخيّل الديني في ميثولوجيا الشيعة وتاريخهم. هذا التوجّه الجمالي يتيح إمكانية تحويل نتاج المتخيّل الجماعي المستوحى من النصوص والرموز الدينيّة، إلى صور واقعيّة ذات جاذبية شعبية، وإن كانت محاطة بالأسطورة (الشكل ٢٠).
تشكّل حالة المكتب الإعلامي لحزب الله استثناءً بين النماذج السائدة لإنتاج الملصق لدى الأحزاب السياسيّة التي تناولناها آنفاً. فبعد اعتماده غير الرسمي على شبكات الفنّانين والمصادر الموالية، صار لحزب الله بحلول العام ١٩٨٥ بنية متكاملة للإنتاج الفني ضمن جهازه الإعلامي. قدّم الحزب مكاناً جماعياً للعمل، مزوَّداً بالأدوات والموارد اللازمة، ومن ضمنها مكتبة تحوي مراجع عن الفن السياسي والملصقات. اتخذ مسار العمل على الملصقات شكلاً تعاونيّاً باستخدام مهارات مختلف الخبراء المرتبطين بفريق ورشة العمل، حيث يعالج مصمّم فكرة الملصق ويعمل بوصفه مخرجاً فنّياً، ويقوم رسّام بصنع البورتريهات، ويهتم خطّاطٌ بكتابة العنوان والآيات القرآنية، ويهتم تقنيٌّ بتحضيرات الطباعة. استخدم الرسّامون والخطّاطون في مشاريع إعلامية أخرى إلى جانب الملصقات، مثل الجداريات ولوحات صور الزعماء الضخمة واليافطات. ومعظم المتخصّصين في هذا الجهاز هم من أنصار الحزب، يشاركونه إيديولوجيته وعقيدته الدينيّة، وبالتالي فهم يعملون في إطار خطاب الحزب. ما يوفّر نوعاً من الاستقلالية لفريق العمل المتخصّص في التواصل، كي يصوغ الرسالة التي ينطوي عليها الملصق، من دون الخضوع لإملاءات المكتب السياسي، كما وصف لنا أحد أعضاء فريق التصميم الفنّي. انضم محمد إسماعيل إلى مكتب إعلام حزب الله في العام ١٩٨٤ وأصبح مصمّماً رئيسياً في ورشة العمل حتى العام ١٩٩٤(15)، درس إسماعيل الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة وزاول الرسوم التصويرية والكاريكاتور حين كان يعمل في مطبعة، قبل أن ينضم إلى المكتب ويساهم في تأسيسه. وساعده ميله الفنّي ومهاراته في الرسم فضلاً عن معرفته بالطباعة، كما يوضح، في عمليّة التصميم الغرافيكي.
اعتمدت ملصقات حزب الله في البداية على مزج الخبرات السابقة في الملصقات السياسيّة: ملصقات الواقعيّة الاشتراكيّة والمقاومة الفلسطينيّة والثورة الإيرانية. وكحركة مقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يشترك حزب الله مع التوجّهات المذكورة في صياغة التداعيات البصَريّة لوحشيّة القوى الإمبريالية، والكفاح المسلّح من أجل التحرّر الوطني. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدداً من أعضاء الحزب، كانوا مرتبطين سابقاً مع حركات المقاومة اليساريّة والأحزاب اللبنانيّة والفلسطينيّة، وجاء قسمٌ كبيرٌ منهم من حركة أمل. ومن جانب آخر، كان نموذج الملصق الإيراني هو الأكثر تأثيراً عليهم لأنه يصبغ النضال المناهض للإمبريالية بخطابٍ سياسي-ديني ملائم لحزب الله ومألوفٍ لجماعته الشيعيّة. نشأت الجماعة الشيعيّة التي كوّنت أنصار حزب الله على نحوٍ خاصٍّ في جبل عامل، جنوب لبنان، وتقاسمت، في الواقع، مع إيران تاريخاً من الممارسات الدينيّة والثقافيّة وتمثيلاتٍ رمزيّة تتصل بالمذهب الشيعي.
وكما سنرى في الفصول التالية، فإن الخطاب الديني-السياسي الشيعي المشترك، الذي تمأسس خلال إقامة جمهوريّة إيران الإسلاميّة (16)، سهّل نقل جماليات الملصقات الإيرانية وتداعياتها البصَريّة وأعاد تكييفها ضمن السياق اللبناني. أمّا الجمهوريّة الإسلاميّة، بإطارها الشيعي الإسلامي الجامع، فتزوّد حزب الله بالتوجيه الديني والسياسي استناداً إلى ولاء الحزب المرتبط بولاية الفقيه في ظل قيادة الخميني وخليفته خامينئي (17) وعلى نحو متزامن، زوّدت إيران الحزب بالموارد والدعم، ما أتاح إنشاء حزب سياسي ومقاومته العسكريّة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وتطويره مؤسّساتياً. كانت نماذج الفن السياسي الإيراني المعاصرة من بين تلك الموارد أيضاً. حيث تلقّى أعضاء مكتب إعلام حزب الله تدريبهم على المهارات الفنّية وأساليب تصميم الملصق على يد الفنّانين الإيرانيين الذين أتوا إلى لبنان وأقاموا ورشات عمل وجيزة في مرحلة مبكرة من تأسيس الحزب. كما أنّ الفنّانين الإيرانيين صمّموا أثناء إقامتهم القصيرة في لبنان بعض ملصقات الحزب الأولى بين العامين ١٩٨٣ و١٩٨٥، ومن ضمنها شعار حزب الله المصمَّم استناداً إلى شعار الحرس الثوري الإيراني (باسديران).
على نحوٍ مشابه، لم تستفد أولى ملصقات حزب الله من النموذج الجمالي للملصقات الإيرانية وتداعياته البصَريّة فحسب، بل من الرسوم نفسها التي عرضتها تلك الملصقات. المثال المتكرّر هو الرسم التصويري الملوّن للمقام الديني والرمز الإسلامي للقدس، قبّة الصخرة (الشكل ٢١؛ انظر الفصل الثالث: إحياء الذكرى). في الحقيقة، كان الرمز مألوفاً إلى حدٍّ كبير بالنسبة إلى الجمهور اللبناني الذي عاش على تماسِّ مع حركة التحرير الفلسطينيّة. يذكر تشيلكوفسكي ودباشي في كتابهما إعداد ثورة: فن الإقناع في جمهوريّة إيران الإسلاميّة أنّ الفنّانين الإيرانيين، تأثروا أساساً بصناعة الأيقونة الفلسطينيّة من خلال معرض للفن السياسي الفلسطيني الآتي من بيروت، والذي استقبلته طهران في العام ١٩٧٩(18)، واقع الحال أنّ الفنّان المصري حلمي التوني هو الذي رسم أصلاً تلك الصورة الملوّنة لقبّة الصخرة. وقد أبرزها ملصقٌ أصدرته في السبعينات «دار الفتى العربي». هكذا، مضت أيقونة قبّة الصخرة في جولة فعليّة من بيروت إلى طهران، قبل أن تجد نفسها مجدّداً في شوارع بيروت أوساط الثمانينات، من خلال ملصق حزب الله.
إذا وضعنا جانباً خصوصيّات البلاغة الدينيّة لملصقات حزب الله، فإن مفرداتها الجماليّة لم تشكّل طابعاً موحّداً يسمح بتميُّزها عن غيرها من الإتجاهات الجماليّة التي طبعت الملصقات السياسيّة خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة. فإلى جانب الرسوم الدينيّة المشغولة على نحوٍ رومانسي-واقعي، غالباً ما لجأت ملصقات الحزب إلى أنماط التصميم الحديثة ــ تمثيلات غرافيكيّة تجريدية، وتركيب الصور الفوتوغرافية مع الرسوم ــ كما يبدو جليّاً في أعمال محمد إسماعيل. يتوافق الطابع الانتقائي لمصلقات حزب الله مع البنية المركّبة لخطابه الديني-السياسي بوصفه مقاومةً إسلاميّةً في لبنان. كما أنها تناظر جماليّات التجربة الإيرانية التي راكبت رموز الكفاح الثوري مع العلامات الدينيّة المستقاة من المتخيّل الجماعي للشيعة (الشكل ٢٢).
ملاحظات ختاميّة
مع تفاقم العداوات المحلّية بفعل حربٍ أهليّة استمرّت ستة عشر عاماً، تأثرت نوعيّة الملصقات بتدهور المعايير الإنسانيّة، ووصول أمراء الحرب إلى السلطة، وهيمنة الميليشيات، بالتضافر مع انهيار اقتصاد البلد والخسارة المعنوية التي تكبّدها اللبنانيون. ومن نافل القول أنّ الاهتمامات العسكريّة المتنامية للأحزاب أثناء الحرب أفقدتها على نحوٍ جليٍّ اهتمامها بالقيمة الجماليّة للملصقات، فأصبحت هذه الأخيرة وسائل رمزيّة لتأكيد الهيمنة العسكريّة على منطقةٍ ما. لذا كان شعار الحزب وصورة الزعيم كافيين رمزيّاً لوسم مناطق الهيمنة والنفوذ. أمّا الفنّانون الذين انخرطوا خلال الستّينات والسبعينات في المشاريع التقدمية والقضايا الثوريّة، ومعظمهم ينتمي بشكل عام إلى مواقع يساريّة، فقد تخلَّوا غالباً عن التزامهم السياسي الأوّل. حدث ذلك تدريجاً بعدما انحرف النضال عن أهدافه الإصلاحية الأساسية، ووقع في فخّ الاعتبارات الطائفيّة الضيّقة، وما ينتج عنها من عنف أعمى. من ناحية أخرى، أدّى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام ١٩٨٢، ثم خروج المقاومة الفلسطينيّة من لبنان إلى تمزيق شبكات التعاون الفنّي التي أقامها تحالف الأحزاب اللبنانيّة مع التنظيمات الفلسطينيّة. وباستثناء الجهود المبذولة على صعيد الملصقات الداعمة للمقاومة الوطنيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فقد خفتت الحماسة الطوباوية التي شهدتها العقود الماضية، وسقطت أوهام المشاركة السياسيّة وسط مناخ عام من فقدان الثقة بالشأن السياسي. هذا ما جعل تصميم الملصق السياسي، بشكل أساسي، في يد موظّفي الإعلام الذين واصلوا إعادة إنتاج الأشكال والقوالب نفسها لمعظم الملصقات التي يصدرها هذا الحزب وذاك.
أمّا في الموقع النقيض، فلم يكن لدى الجبهة اللبنانيّة، بدايةً، سوى مساهمات احترافية قليلة. ومقارنةً بخصومها، أنتجت الأحزاب التي شكّلت الجبهة اللبنانيّة عدداً قليلاً نسبيّاً من الملصقات. فعدا ارتباط بيار صادق بحزب الكتائب والقوّات اللبنانيّة، لم يكن هنالك تقريباً أي فنّان بارز أو رسّام محترف معروف ساهم في ما ينتجانه من الملصقات. هنالك الكثير من التفسيرات لهذا الواقع. أولها، كما ذكرنا آنفاً، أن مساهمات الفنّانين الغزيرة في إنتاج الملصق بدأت قبل اندلاع الحرب ضمن المقاومة الفلسطينيّة، بالتزامن مع حركة التزام الفنّانين العرب سياسيّاً بالصراعات الإقليميّة السائدة. تجاوز ذلك خصوصيّة لبنان واشتمل على الصراع العربي-الإسرائيلي، وكذلك الصراعات السياسيّة-الاجتماعيّة ذات الصبغة التقدّمية. أمّاّ أنصار الجبهة اللبنانيّة، فلم يتقاسموا مثل هذه المشاغل والقضايا، بل أجمعوا على نقض القوميّة العربيّة من خلال التأكيد الصارم على الهُويّة اللبنانيّة. هذا فضلاً عن النزعة اليمينيّة المحافظة التي طبعت معظم أحزاب الجبهة اللبنانيّة. لذا فإن الاهتمام بالملصق، بوصفه شكلاً فنّياً للمشاركة السياسيّة وأداة نضالية، ارتبط على نحو خاص بسياسة اليسار، وبتاريخ حافل بالمثل الثوريّة من الملصقات البلشفية وصولاً إلى ملصقات التضامن الكوبية وحركات الاحتجاج المعاصرة.
والسبب الثاني، هو أنّ التنظيمات الفلسطينيّة بخبرتها الغنيّة في إنتاج الملصقات زوّدت الأحزاب اليساريّة عبر التحالف المشترك بإطارٍ إبداعي سمح بازدهار تصميم الملصقات السياسيّة. كما أنها زوّدت، على حدٍ سواء، الأحزاب اللبنانيّة الحليفة بالموارد البشرية والمادية الضرورية لإنتاج تلك الملصقات.
أمّا السبب الثالث، فيكتسب طابعاً نظريّاً، إذ يتعلّق بالتركيبة الجيوسياسيّة للحرب، وبطبيعة الملصق بوصفه وسيلة انتشارٍ في الفضاء العام، فقد امتلكت مكاتب الإعلام لشتّى الأحزاب شبكات توزيعٍ للملصقات ضمن مناطق سيطرتها السياسيّة. بهذا المعنى، عملت الملصقات كتأكيدٍ رمزيٍّ على هيمنة الحزب على منطقةٍ بعينها. فبيروت الغربية تقاسمها العديد من الأحزاب السياسيّة التي تكوّنت في سبعينات القرن الماضي ومطلع ثمانيناته من القوّات المشتركة للتنظيمات الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة. ثم شهدت في أوساط الثمانينات، صعود المقاومة الإسلاميّة وسط الأحزاب العلمانيّة الأخرى التي شكّلت جبهة المقاومة الوطنيّة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وبخلاف المناطق الريفية المحيطة ببيروت ذات التخوم الواضحة المعالم، فقد كانت بيروت الغربية منطقةً متعدّدة النفوذ، يتنازع الهيمنة عليها مختلف الأحزاب التي تحارب للمحافظة على مناطق سيطرتها. أدّى ذلك إلى قيام مختلف الأحزاب التي تنتمي نظرياً إلى معسكرٍ واحد، بمضاعفة جهودها في إنتاج الملصقات. بناءً على ذلك، شهدت المواقع المركزية في بيروت الغربية ضرباً من التنافس الرمزي بين ملصقات مختلف الاتجاهات السياسيّة والإيديولوجية. يحكي موظّفو الإعلام كيف كانت الملصقات التي يضعونها على الجدران تغطّيها في اليوم التالي ملصقاتٌ أخرى لحزبٍ آخر.
لم يكن مثل هذا النزاع الرمزي والتسابق على إنتاج الملصق قائماً في المنطقة الشرقية من بيروت، إذ كان عدد الأحزاب التي شكّلت الجبهة اللبنانيّة أقل من تلك التي شكّلت المعسكر الآخر. فوق هذا وذاك، وابتداءً من العام ١٩٧٦، حُلّت التجمّعات العسكريّة الصغيرة لضمّها إلى القوّات اللبنانيّة التي يقودها بشير الجميّل. وبحلول العام ١٩٨٠، وحّد هذا الأخير كل الأحزاب الممثّلة في الجبهة تحت قيادته. هكذا حدّت الهيمنة المطلقة للقوّات اللبنانيّة على المنطقة الشرقية المسيحية من بيروت، من التنافسٍ على الهيمنة، وما يرافقه من إنتاجٍ كثيفٍ للملصقات كما حدث في بيروت الغربية. وابتداءً من منتصف الثمانينات، اتجهت القوّات اللبنانيّة إلى الإرسال التلفزيوني والمطبوعات الدورية بوصفها وسائل إعلامية واسعة الانتشار، ما أدّى إلى تراجع إنتاجها للملصقات. أمّا النزاعات السياسيّة والمعارك اللاحقة التي دارت بين العامين ١٩٨٩ و١٩٩٠، ضمن ما أطلق عليه تسمية «المناطق المسيحية»، فقد أبرزتها في المقابل وسائل الإعلام الجماهيري المستحدثة، ما جعل مختلف الأطراف بغنىً عن ذلك الوسيط السابق الذي هو الملصق السياسي.
1 أسّست بعض الأحزاب محطاتٍ إذاعيةً خاصّةً بها وأسّس قليلٌ منها محطةً تلفزيونية في ثمانينات القرن العشرين. كان لوسائل الإعلام هذه ترتيباتٍ خاصّةً منفصلة عن مكتب الإعلام في الحزب.
2 يستند هذا الاستعراض إلى مقابلاتٍ أجريت مع مسؤولين إعلاميين ومصمّمي ملصقاتٍ بين العامين 2005 و2006.ً
3 في مقابلة أجريت مع الفنّان والناقد الفنّي سمير صايغ.
4 Traboulsi, Fawwaz, A History of Modern Lebanon (London: Pluto Press, 2007), p. 169
5 انظر: شوكت الربيعي، الفن التشكيلي في الفن العربي الثوري (العراق: وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، سلسلة الفن، 1979)؛ ضياء العزّاوي، فن الملصقات في العراق، دراسة في بداياته وتطوّره بين العامين 1938ـ1973 (العراق: وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، سلسلة الفن، 1974)؛ عفيف بهنسي، الفن والقوميّة (دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1965).
6 الفن العراقي المعاصر، المجلد الأول، الفنون البصَريّة (لوزان: Sartek، 1977).
7 Ali, Wijdan, "Modern Arab art: an overview", in Salwa Mikdadi Nashashibi (ed.), Forces of Change: Artists of the Arab World (Lafayette, CA: International Council for Women in the Arts, 1994), pp. 73-4
8 أسّس كميل حوّا «المحترف»، وهو مؤسسةٌ مرموقة للتصميم الغرافيكي يقع مقرّها في المملكة العربيّة السعودية ولبنان.
9 من أجل مزيدٍ من المعلومات عن OSPAAAL والملصقات الاحتجاجية الأخرى، انظر: Cushing, Lincoln, ¡Revolución! Cuban Poster Art (San Francisco: Chronicle Books, 2003); Frick, Richard (ed.), The Tricontinental Solidarity Poster (Bern: Comedia-Verlag, 2003); Martin, Susan (ed.), Decade of Protest: Political Posters from the United States, Vietnam, Cuba 1965-1975 (California: Smart Art Press, 1996)
10 Frick (ed.): The Tricontinental Solidarity Poster, p. 92.
11 في مقابلة مع المؤلّفة، تموز / يوليو 2006.
12 في مقابلة مع المؤلّفة، كانون الثاني / يناير 2006.
13 في مقابلة مع المؤلّفة شباط / فبراير 2007.
14 بقي موصللي نشيطاً حتى وقتٍ قريب، حين لم يعد تقدّمه في العمر ومشكلات الرؤية تسمح له بمواصلة ممارسته للرسم بنفس الحمية وبعد أن تغلّبت وسائل التصميم الجديدة والطباعة الرقمية على سوق بورتريهات الزعماء.
15 أسّس محمد إسماعيل بعد العام 1994 ستوديو للتصميم الغرافيكي خاص به وواصل تقديم خدماته للمكتب الإعلامي في حزب الله على أساسٍ استشاري.
16 انظر: Chelkowski, Peter and Hamid Dabashi, Staging a Revolution: The Art of Persuasion in the Islamic Republic of Iran (London: Booth-Clibborn Editions, 1999).
17 من أجل دراسةٍ أكثر استفاضةً حول ولاء حزب الله لولاية الفقيه، انظر: Saad-Ghorayeb, Amal, Hizbu'llah: Politics and Religion (London: Pluto Press, 2002), pp. 64-8.
18 Chelkowski and Dabashi: Staging a Revolution, p. 115.
ترجمة عماد شيحا
مراجعة بيار أبي صعب
رقم الإيداع الدولي : 5-74-417-9953-978