كيفما عُرٍفت، الحرب هي في الأساس تعبير عن القوة. لا تعلن الدول الضعيفة الحرب، القوية منها هي التي يسمح لها موقعها باختيار ذلك. الدول القوية لديها الانتماءات السياسية، التطور العسكري، وقدرة التحمل المالية لإعلان الحرب. لكن هذه المعادلة، المكونة من الضعيف والقوي والسيناريو الذي سيتبع، هل هي ذاتها على كل جبهات العلاقة بين الأطراف المتحاربة؟
في الثاني عشر من تموز ٢٠٠٦، اختطف حزب الله، وهو حزب المقاومة اللبنانية المسلح، جنديين إسرائيليين. في ١٣ تموز ٢٠٠٦، اعلنت اسرائيل الحرب على لبنان. خلال أيام الحرب الـ33، تم إلقاء آلاف المناشير في محاولة للتأثير على الموقف اللبناني، وهي عملية نفسية بامتياز. وتعّرف هذه العملية من قبل وليم دوهرتي على أنّها «الاستخدام المقصود للبروباغندا وأعمال أخرى من أجل التأثير على الآراء، والمشاعر، وتصرف المجموعات الأجنبية، العدوة، المحايدة والصديقة، بطريقة تساهم في تحقيق الاهداف الوطنية». بكلمات أخرى، هي محاولة تواصل بهدف الاقناع.
الدراسة التي بين أيديكم تحاول البحث في العلاقة بين المرسل والمتلقي والرسالة في حالة الحرب. في اعتقادي أنّ ما جربت اسرائيل تحقيقه من خلال تلك المناشير، لم يكن التواصل، بل تعزيز خطاب الاحتلال. لكن على المستوى المنطقي تتغير وسائل وادوات الاحتلال. ومن خلال تحليل سيميائي للمناشير الملقاة، نحاول الوصول إلى فهم أفضل للعلاقة بين الخطابين.
نموذج التواصل
قبل ان نبدأ معاينة تلك المناشير، يجب أن نقوم بمراجعة لعملية التواصل، وجذورها في البيئة الاجتماعية. يعّرف تشارلز كولي التواصل على أنّه «... الطريقة التي توجد من خلالها العلاقات الإنسانية وتتطور، مع عمل كل رموز العقل مع وسائل تحويلها عبر المكان والحفاظ عليها في الزمان...».
يشمل ذلك طيف التعبير الإنساني كلّه، إن كان الكلام، لغة الجسد، الكتابة، التمثيل، او الرسم. كونه كائن اجتماعي، يطور الإنسان أنماطاً يحوّلها لاحقاً إلى عادات استجابة أو تعبير. تختبر تلك الأنماط وتكتسب في بيئة اجتماعية، وبالتالي، فإنّ نتيجة أي حركة او تعبير لفظي ستشارك ضمن تلك البيئة. ستتراكم تلك النتائج لتصبح مجموعة من الأعراف، او لغة، تعطي للرموز معانيها. وجود شبكة مماثلة من المرجعيات هي ما يسمح في العادة بالتواصل.
أخيراً، على عكس التعريف الخاص بالعمليات النفسية، التواصل ليس عملية ذات اتجاه واحد. قد يضع المرسل الرسائل المرمزة، والمتلقي قد يفك تلك الرموز، وكل منهما يستخدم مجموعته الخاصة من المرجعيات. المرسل لا يتحكم بما سيفهمه المتلقي من الرسالة. احتمال التطابق بين الرموز وتفكيكها، يتعلق بتداخل المجموعات المرجعية الخاصة بكل منهما. عبر ذلك النموذج، الذي يعترف بطرفي العملية، المرسل والمتلقي، وكذلك المضمون الذي تنبع منه كل المعاني، عبر ذلك كله سننتقل الى معاينة تلك المناشير.
الوسيط
طريقة النشر
اكتشاف المناشير هي حادثة اتذكرها بسهولة: تسمع صوتاً قوياً جداً، يشبه الانفجار، لكنّه ليس كذلك. لكنّ الصوت قريب جداً، لذلك تهرع للخارج لتتأكد بنفسك. إنّه صندوق كبير من الاوراق، المناشير. اجتياح هو المعنى الاول الذي يتردد لديك مع تفاعلك الاول مع الرسالة، وهي رسالة ألقيت، حرفياً، عليك.
تتردد في لمس المناشير، لأنك لا تعرف «بماذا رشوها». «لقد سمعت أنّ سلاماً باليد كان وراء موت عرفات البطيء. يعرضونك لمواد تضعفك بشكل بطيء لكن المشروع هو هو». «قد ينفجر هذا الصندوق، في خمس دقائق، وهي مدة تكفي لعدد كبير من الناس للتجمع حوله. تعرفون كيف يحبون المجازر». تلك عينة من ما يعتقده من يقتربون من المناشير.
مصدر المناشير هو اهم العوامل التي تغذي الانطباع العام الذي يفك ترميزه المتلقي. خصائص المصدر مهمة جداً في قبول الرسالة أو رفضها. قد لا يكون المصدر يمتلك تلك الخصائص، لكنّ المتلقي يصفه بها في كل الأحوال. اسرائيل، بالنسبة إلى أي لبناني، هي رمز مع خصائص. بما أنّ المناشير من اسرائيل، فقد اكتسبت كمية من المعاني قبل ان ينظر إليها المرء حتى. تغذي تلك المعاني المعرفة، والمراقبة والخبرة السابقة ــ أي ما أشرنا إليه كمرجعيات. حرفياً، إنّ إلقاء تلك المناشير على رؤوس الناس هو معنى أول يؤكد خبرة هؤلاء الناس السابقة مع اسرائيل كمعتدي. حتى الآن، الوضع لا يزال مشابهاً.
اختيار الوسيط
ننتقل الآن إلى الدلالة الثانية: اختيار الوسيط. المنشور هو أحد الوسائط المستخدمة مراراً في العمليات النفسية. اختيار ذلك الوسيط، في المقابل، لا يتناسب مع السلطة والعدائية المستخدمة في طريقة إلقاء المناشير. هي ليست عنوان صحيفة «ينقل بطريقة واضحة وموضوعية الحقيقة»، ولا يبحث عن رد بل يقدم لك «الوقائع». المنشور هو وسيط يخاطبك وجهاً لوجه، وبشكل متساوي. تفاعلك مع المنشور هو ذات طبيعة شخصية، فهو لا ييسيطر عليك بمحتوياته، بل يمنحك الشعور الواهم بانك المسيطر. المنشور لا يفرض الانتباه، لكنّه يدعوه.
اختيار الوسيط يمثل التغيير الأول على خبرتنا السابقة مع اسرائيل. كان يمكن لمكبر صوت مزعج ان يناسب الصورة بشكل أفضل. لكن اي منشور لا يترافق مع صورتنا المكونة وفهمنا للمنطق الاسرائيلي.
هكذا عوضاً عن عدم الاهتمام، يثير اختيار الوسيط شبهة المتلقي، من دون قصد. هو يقدم خاصية غريبة عن علاقته الخاصة باسرائيل. بالتالي، اختيار الوسيط هو المثل الأول عن المواجهة التي لا يمكن تجبنها، والمتلازمة مع عملية فك الترميز: صورة لبنان المكونة عن اسرائيل، مقابل الصورة التي تقدمها تلك المناشير.
بالإضافة إلى ذلك، تلك المتغيرة تعطينا رؤية داخل عملية فك الترميز على الجبهة الاسرائيلية. لدى فريق العمليات النفسية الاسرائيلي، وحدة أبحاث تتمثل مسؤوليتها الوحيدة في تأمين المعلومات عن المتلقي. بالتالي، يقع على عاتق تلك الوحدة بناء صورة عن الوضع اللبناني يكون دليل للعملية. احد الجوانب التي لا يمكن تجنبها في عملية جمع المعلومات هي أنّها تقرأ وتصنف وفق النظرة الاسرائيلية. يمكن جمع المعلومات عبر المراقبة، أو حتى دراسة ميدانية، لكن رموز معانيها ستفكك وفق المرجعيات الاسرائيلية. على تلك الجبهة أيضاً، يتم التفاوض على صورتين: صورة الاسرائيلي عن اللبناني، مقابل صورة اللبناني عن نفسه. بالتالي، نجد انفسنا في المعضلة نفسها، لكن هذه المرة من الجهة المقابلة، ويمكن أن يوصم المتلقي بخصائص لا يتمتع بها من قبل المصدر. تلك هي الخصائص التي يتخيلها فريق العمليات النفسية، سواء كانت ممثلة فعلاً للمتلقي ام لا. في النتيجة، تلك هي الخصائص التي ستكون دليلاً لمقاربة الفريق.
بشكل شامل، لدينا رسالة مقصودة هي عبارة عن مواجهات عدّة خارج الرسالة المرمزة. هناك احتمال انحراف إلى المسارين المتوازيين اللذين لا يلتقيان. سنحاول من خلال تحليل المناشير وضع خريطة شاملة للمفاوضات بين الجبهتين، خصوصاً في الأماكن حيث لا يعودان يبدوان منفصلان.
الرسالة المقصودة
إنّ مضمون الرسالة ــ شكلها، لغتها، جمهورها المستهدف، وموضوعها ــ هو مؤشر على الطريق الذي ستسلكه، وكذلك النتيجة التي ستؤدي إليها. الرسالة المقصودة هي عبارة عن مجموعة منتقاة من النقاط حيث تلتقي الخطابات المتحاربة. تحليل كل واحدة من نقاط المواجهة تلك، سيوصل إلى العلاقة الكاملة بين الإثنين.
الشكل
النص هو، من دون شك، الخيار الاول كوسيط للتواصل. الرسم يأتي ثانياً. تترك الكلمات القليل من المساحة للارتجال في طريقة التفسير. الرسوم، في المقابل، ليست مضمونة بتلك السهولة، خصوصاً حين تكون على عكس الصور الفوتوغرافية. لكن فريق العمليات النفسية الاسرائيلي يجد طريقة خاصة كي لا تترك تلك الرسوم اي مجال للغموض.
أولاً، الرسوم ايقونية، اذا يجسد الشر عبر ثعبان (المنشور رقم ١)، والتلاعب عبر مقابض خاصة بالدمى المتحركة (المنشور رقم ٢)، ولبنان بواسطة العنصر الأبرز في علمه الوطني (المناشير ٣ و ٤ و ٥ و ٧)، فميا يصوّر الاختباء عبر الجلوس القرفصاء خلف درع (المنشور رقم ٨)... إلخ. هكذا، يصبح النص كلام للصورة، ونادراً ما يزيد معنى، وغالباً مضيقاً الاحتمالات، وهو ما كان يجب ان يكون واضحاً عبر رسم لوحده، بدون نص (المناشير ٣ و ٤ و ٩ و ١٠ و ١١). في حالات عدّة، (المناشير ١ و ٩) (المناشير ٢ و ١٢) (المناشير ٥ و ٨) نجد رسوم لوحدها، بعد مناشير عدّة سبقتها تحتوي الإثنين معاً (نص ورسم).
بهدف معرفة خصائص المنطق الاسرائيلي، يبدو هذا الخيار محاولة للسيطرة، وإعادة توكيد لخطاب هيمنة. لا تدعو الرسوم المتلقي للمشاركة، إذ هو مضمون الرسالة. يصبح اللبناني في تلك الحالة في وضع يعرفه تماماً: ضعيف. اسرائيل في المقابل، تستطيع ان تبدي رأيها في الحرب، وتحوّل ذلك الرأي الى تعبير واقعي، واعتباره النص الوحيد عن الحرب، وفي خضم ذلك، تلغي اي إمكانية لمشاركة المتلقي، عبر الرد، التجاهل او حتى التعليق.
في النتيجة، تلك المقاربة التي تعمل على تحديد مساحة من كل الجهات ومحاصرتها حتى يصبح سيناريو واحد قابل للتنفيذ ــ الدعوة او الاعتراف ــ تعمق تلك المقاربة من العلاقة غير المتساوية بين الطرفين. أكثر من ذلك، لا يختلف السيناريو المطروح من قبل المناشير عن ذلك الدائر على الأرض. إذ رغم أنّ المناشير تحاول "الكلام" مع الجمهور اللبناني، فإنّ المقاربة الخطابية هي ذات طبيعة مسيطرة وإلغائية.
اللغة
الخلل في توازن القوى الذي يسمح بتوسيع خطاب اسرائيل المسيطر، يصطدم ليس فقط بحذر المتلقي، لكن ايضاً بقصوره الخاص في استحضار صورة للمتلقي لا تتناقض مع سيطرته الخاصة.
التواصل الذي يستخدم لغة الهدف الأصلية هو اسلوب شائع في العمليات النفسية. يؤمن ذلك وصولاً الى كل فئات الجمهور. بالإضافة إلى ذلك، يبرهن عن اختراق المرسل لنطاق آخر خاص بالمتلقي، وهو تأكيد اضافي على سيطرته الكاملة على الوضع. لكن اللغة هي رابطة معقدة متعددة الأبعاد، تتجاوز قواعد القواميس.
اللغة بمجملها، عدا بعض الأخطاء الصغيرة، صحيحة. لكن خطاب السيطرة لا يقف عند حدود التواصل الخاص بالقاموس، ما كان سيؤمن الترجمة العربية الكافية للموضوع. يصر فريق العلمايت النفسية الاسرائيلي على الادعاء بانّهم يمتلكون معرفة كاملة باللغة، ويختارون البرهنة عن ذلك عبر استخدام امثال عربية، وكلمات اغاني، واقتباسات ادبية، كلما استطاعوا ذلك. يبرز ذلك في المنشور رقم ١٣. في الجملة الاخيرة منه، تستخدم عبارة عربية شائعة هي "سيف ذو حدين"، في إشارة إلى "استمرار اعمال حزب الله الإرهابية". في العادة، تستخدم هذه العبارة في إشارة إلى عمل يمكن أن يؤدي إلى نتيجتين متناقضتين. كذلك، تستخدم للتركيز على خيار قبل اتخاذه، للإيحاء إلى الخطر الكامن وراءه. يمكن لخيار الحرب ان يكون المقصود بذلك: فهي تسمح بتحقيق هدف ما، لكنّها تؤدي الى خسائر عدّة. وفق الرسالة الاولى في المنشور، النتيجة الوحيدة لاستمرار "اعمال حزب الله الإرهابية" هي الحاق الأذى بالمواطنين اللبنانيين والاسرائليين. بالتالي، ضمن ذلك الخطاب، لا معنى للعبارة، وإلا فسيكون لاستمرار "اعمال حزب الله الإرهابية" جانب إيجابي. وذلك ما يفهم من العبارة إلا في حال كانوا يقصدون ان الاعمال تؤدي الى نتائج على فريقين: الشعب والدولة، مقابل نتيجتين. يترك القارئ ليخمن المعنى المقصود وادعاء المرسل انّه يمتلك معرفة كاملة باللغة.
في منشور آخر، (المنشور رقم ١٤)، يستخدم اقتباس من اغنية حب لبنانية معروفة، هي "كلمات" لماجدة الرومي. يشير المنشور إلى خداع القائد، وأنّ خطابه مزور. استخدام الأغنية في رسالة من العدو للإشارة إلى قائد معين، هو رجل دين ايضاً، على الأرجح لا يعرف الكثير من الأغاني، خصوصاً العاطفية منها، هو مضحك جداً. العالمان لا يلتقيان، بكل بساطة. نقع هنا على انقسام: فريق العمليات النفسية يستخدم المعنى الحرفي من الاغنية لكن ليس ما تعنيه فعلاً لأي شخص من ذلك العالم المقصود.
عوض فرض صورة عن اسرائيل كطرف يفهم موقف المتلقي، تفضح نصوص تلك المناشير اسرائيل بكونها عاجزة عن استعياب النواقص في صورة ذلك المتلقي. تبدو معظم النصوص قاصرة عن اعطاء المعنى المطلوب. نجن أمام تجميع لاجزاء جمعت من مرجعيات مختلفة. هي اجزاء لأنّ معناها التلميحي يطغى على المعنى المقصود. تعامل تلك الاقتباسات بمعزل عن النص الذي أخذت منه، وبالتالي بعيداً عن ايحائاتها التي تذهب بعيدأً عن معناها الحرفي. أما بالنسبة للمراجع، فيبدو أنّها تعود لجمهور آخر. في بعض المناشير، العبارات ليست حتى لبنانية، بعضها مصري (المنشور رقم ١٥)، وآخر عربي قديم (المنشور رقم ٧)، لا يمتان بصلة للغة اللبنانية اليومية.
نحن أمام فريق عمليات نفسية يقدم مجهوداً ربما يكون ذات معنى اكبر داخل خطابه الخاص، مما هو عليه في الجانب اللبناني.
الجمهور المستهدف
أحد أهم العناصر في التواصل الذي يهدف إلى الاقناع هو الانسجام بين الصورة التي لدى المرسل عن المتلقي، وصورة المتلقي عن نفسه. اهمية تلك النقطة تكمن حين يكون المتلقي موضوع الرسالة.
في الحالة التي ندرسها، يبدأ كل منشور بخيار محدد عن الجمهور المستهدف، في وسط اعلى الورقة، ومحدد بشكل واضح: "إلى السكان اللبنانيين"، أو إلى عناصر حزب الله". من الواضح أنّ ذلك جزء من الاستراتيجية المتبعة لجعل المناشير تحتوي على أقل نسبة من الارباك. التمييز بين الجمهور المستهدف يرتكز على الانقسام الداخلي ، يعرفه المتلقي، لكن في المناشير يبدو له الوضع غريباً.
فهناك سيناريو جديد مختلف، وفيه الشعب مقسوم إلى فئتين: اللبنانيون مقابل حزب الله، بوصفهما منفصلين. واسرائيل تريد القضاء على الفئة الثانية. التمييز ذاك يجر إلى تقسيمات أخرى: ارهابيين مقابل مدنيين، حزب الله مقابل إمكانية السلام، حزب الله ضد مستقبل لبنان، نصر الله ضد الدولة. بالنسبة لشخص ينظر لنفسه على أنّه لبناني، ولديه معارف من حزب الله، تبدو تلك القطبية في التمييز مربكة.
القطبية هي من دون شك مفهوم تجريدي. والتجريد هو عملية يتم من خلالها اختيار ما هو مهم وترك التفاصيل. يعني ذلك التخلي عن التفاصيل وازالتها. في النهاية نبقى مع قطع يتم اعتبارها تمثل علاقة جديدة يعرفها من قام بالتجريد. وحين يواجه المتلقي صورة عن نفسه لا يتعرف عليها، فإنّ النفور هو النتيجة المحتملة. تلك المسافة بين الخطابين تتوسع بسبب خاصية اخرى لذلك الخطاب. الحملة على الشر والإرهابي، وإعاقة السلام كانت مهمة اسرائيل في لبنان. وعرضاً، برر العنوان نفسه مهمات في اماكن أخرى حول العالم. بالتالي، تتشابك الإيديولوجية الاسرائيلية لكن ليس مع تلك اللبنانية، بل مع الخبرة اللبنانية مع الإيديولوجية الأميركية.
الثيمات
الثيمات المشار إليها، تؤدي إلى اكثر المواجهات جدية بين الطرفين. قد تكون الخيارات المتعلقة بالمقاربة (الوسيط، اللغة والجمهور) وضعت الاطر العام، وأكدت على رؤية مسبقة للعدو او تحدتها، لكن الثيمات هي التي ستقدم مواد جديدة للعلاقة. حتى الآن، تم فك ترميز كل شيء وفق الصور المبنية في التجارب السابقة. الثيمات ستقدم في النهاية مادة لجعل ما يحصل تجربة جديدة، او موقف يحيل الى تجارب سابقة.
إبادة القائد:
الهجوم على حسن نصر الله، الامين العام لحزب الله، هو احد الثيمات الأكثر تكراراً في المناشير. يبدو أنّ فريق العمليات النفسية يدرك أهمية الزعيم في البنية الاجتماعية اللبنانية، وبالتالي، فإنّ تشويه سمعة ذلك الزعيم، قد يكون خطوة استراتيجية نحو تفريق الحزب.
وتهدف الصور على المناشير إلى تحدي رمزية نصر الله وتكوين رمزية أخرى. خصائص ذلك البناء تبدو واضحة في الرسوم الرمزية.
وللنظرة الأولى، يبدو كأنّ المناشير تروج للخطاب التالي: "نصر الله هو عميل لمصالح سوريا وإيران. تدمير لبنان هو ثمن لن يحزن لدفعه. خطابه لا معنى له. هو جبان يستخدم البلاد وسكانها كدرع لحماية نفسه. القتل في طبيعته، ولن يتوقف أبداً".
السعي لتشويه صورة نصر الله تظهر كذلك من خلال وسائل غير مباشرة. فيظهر نصر الله بين الأسود والأبيض، كالعنصر الأكثر كثافة في الرسم. طريقة الرسم تشبه تلك المستخدة في كتب القصص المصورة. يسمح ذلك بمرونة ما في بناء الشخصيات في مواقف مختلفة. يسمح ذلك أيضاً بالتركيز على مميزات معينة، واهمال اخرى. فظهر نصر الله في المناشير بحواجب كثيفة، نظارات، بطن كبير، ولحية كثيفة، ولباس ديني كبير خاص بالشيعة. النتيجة هي حضور ديني قاسي، ومهدد.
كذلك يسمح الوسيط بتمظهرات مختلفة تصل الى الجانب الفكاهي. يتحول نصر الله من ثعبان كبير مخيف على وشك ابتلاع بيروت (المنشور رقم ١) إلى لعبة غبية بيد التأثير الاجنبي (المنشور رقم ٢). هذه المعاني المختلفة ستؤدي إلى نتائج تلميحية خاصة بالخطاب الذي تقدم من خلاله. ستتأثر عملية تفكيك الرموز بقيم الخطاب الاجتماعية، والايديولوجيات السياسية، التعقيدات الدينية، الخبرة السياسية، والاهداف الوطنية. في هذه الحالة سيتم قراءتها وفق الخطاب اللبناني.
لا يتم تعريف القائد او الزعيم في لبنان عبر فكره الشخصي، او انجازاته او رؤيته. لا يتم تقويم عمله او تنفيذه لوعوده. في لبنان، الوضع مختلف، إذ يعرف القائد عبر خلفيته الدينية، التاريخية او الجغرافية، وهي هوية مترابطة. والترابط هنا ينتقل من جيل الى آخر. بالتالي، مع موت الزعيم ينتقل الولاء الى وريثه. وفي المثال اللبناني يكون هناك ترابط بين الزعيم وجمهوره، وبالتالي، يصبح الهجوم على الزعيم وفق المنطق اللبناني، هجوماً على ما يمثله، أي الطائفة، القيم الاجتماعية، خلفيته الجغرافية، وتحالفاته. هو في المحصلة اعتداء على الناس الذين تتوجه لهم تلك المناشير.
جانب آخر ملازم لتعريف القائد يتعرض للهجوم عبر اختيار الرسومات. فنصر الله هو شخصية دينية، وضمن المنطق والخطاب اللبناني، تصويره في كاريكاتير يوازي التدنيس. وبالتالي، رمي تلك المناشير على الأراضي اللبناني هو خرق لقدسيته. وفي هذه الحالة أيضاً، الإهانة ليست فقط موجهة لنصر الله بل لكل الطائفة والناس الذين يتبعونها.
الموت:
إنّ ذم القائد، وهو الثيمة الاكثر تكراراً في المناشير، يقدم أمثلة عديدة تساند ذلك الإدعاء. يتم استغلال الحرب، الموت والدمار، وهي مواصفات الواقع المعاش، لتبرير ذلك الهدف.
تمتلأ المناشير بالتذكير بأنّ المدينة تتوجه نحو الخراب وأنّها مليئة بالموت، وأنّ اي أمل بالخلاص يتم تدميره من قبل نصر الله و"عصابته". الحديث عن الموت وطرقه هو الثيمة الوحيدة في بعض المناشير (١٨ و ٢٤ و ٢٥). تسمي المناشير بعض الأشخاص لإضافة بعد حقيقي وصادق، ولتحويل جو موت غامض إلى تقدير واقعي للخسارة. في خلال ذلك، يبرز الموت كنقطة مواجهة أخرى حيث لا تبدو المعاني وكأنّها تتقاطع.
الموت عند حزب الله ليس معادلاً للخسارة. المعادلة السابقة هي نقطة تباعد. فهم أي انسان لرمز معين هو مجموعة من المشاعر والمعتقدات والردود التي يثيرها ذلك الرمز. في خطاب حزب الله ومعتقداته، الحياة على الأرض هي الوقت الذي سيتحملونه في انتظار "الحياة الحقيقية" بعد الموت. كلما كانوا أكثر ايماناً ومتقيدين بالقيم، كلما كانت الحياة بعد الموت أفضل. التضحية الاكبر هي هنا الشهادة، أو الموت من أجل دعوة دينية ما. هي الخطوة الاكثر نبلاً التي يمكن للمرء القيام بها في المرحلة المؤقتة التي يعيشها للوصول إلى مبتغاه الحقيقي. بالتالي، الموت في المعركة هو طموح.
هكذا يصبح الموت ليس فقط امراً مرغوباً لكن مدعاة للفخر. تتهم المناشير حزب الله باخفاء عدد قتلاه، وهو ما لا يتطابق مع عقيدته. صور شهداء الحزب تعلق على الاعمدة ليراها الجميع. الشهداء في عقيدة حزب الله لا يتم اخفائهم بل الحديث عنهم. في هذه المسألة الخبرات وبالتالي ما تؤدي إليه من معاني لا تتقاطع أبداً.
القوّة:
قد يكون القول بأنّ العلاقة بين الخطابين اللبناني والاسرائيلي هي علاقة نفي متبادل، مبالغ به. نحن وصلنا الى تشابك، من خلال ادعاء اسرائيل بأنّ قوتها لا تقهر. ولسخرية القدر، فإنّ ما ينبئ بذلك التداخل هي الحرب.
يتم التعبير عن ادعاء القوة ذاك بشكل مبالغ به. هي افتراض يقوم على مناقشة ادعاءات اخرى مثل اخطاء نصر الله الحسابية، والقبض المرتقب على عناصر حزب الله، او النتائج المتوقعة على مستقبل لبنان، اذا تم تحدي تلك القوة.
بالإضافة لذلك، تلك الادعاءات تتعزز عبر وسائل واضحة: اي الطريقة التي توزع من خلالها تلك المناشير واللغة الآمرة، والتوقيع الدائم. فكل المناشير موقعة من قبل مصدر واضح: دولة اسرائيل التي لم يعترف بها لبنان. استمرار اسرائيل خلال السنوات الماضية هو دليل على ميزة واحدة: قوتها. لذلك، فالتوقيع المعتمد ليس لأهداف تعريفية بل هو تذكير وبرهان على تلك الخاصية.
المثير في الرسالة تلك هو أنّه لم يكن هناك حاجة لتضمينها أدلة او براهين. ادعاء القوة لم يترافق مع صور لأسلحة اسرائيل او لائحة بانجازاتها العسكرية السابقة. لا ضرورة لذلك. بالمقارنة مع الثيمات الأخرى، هنا المسألة ليست تقديم ثيمة جديدة، بل استعادة لواحدة قديمة. فقد خبر لبنان قوة اسرائيل في مناسبات شتى. بالتالي، القوة هنا هي خاصية يصف بها اللبنانيون اسرائيل بدون تردد. هي مرجع هام لدى ذكر اسرائيل لدى اللبنانيين. من جانب آخر، القوة هي ميزة تعتبرها اسرائيل معرفة عنها. هنا نجد اخيراً تشابكاً في الخبرة. في معاينة اسرائيل، يحيل المرسل والمتلقي إلى مرجعيات مشتركة. التشابك في الخبرة يسمح لترابط في المرجعيات وبالتالي في المعنى. هي الحالة التي يتم تفكيك الرسالة، اي القوة، عبر مجموعة من المرجعيات نفسها التي رمزت من خلالها، وسمحت بالترابط في الخبرة. بالتالي، حين ارسلت اسرائيل رسالة لتخبر سكان "مناطق حزب الله" بإخلائها، كانت تعتمد على حوادث سابقة، لتدعيم تهديدها. السكان الذين اعتمدوا على الحوادث نفسها، لم يترددوا، وتم اخلاء المناطق بغضون ساعات.
ثيمة "القوة" تختلف عن الثيمات الأخريات في جانب آخر ايضاً. فالثيمات الباقية نقلت اموراً ذات معنى للمتلقي، او تناولت موضوعاً يتعلق بواقع الحرب. "القوة" هي ثيمة تنقل خاصية المرسل. المتلقي سيفك رموز تلك الصورة عبر مجموعة من المرجعيات ــ وهي الوحيدة التي يعرفها. تأتي تلك المجموعة من خبرات حصل عليها المتلقي من مواجهات سابقة مع الموضوع، اي المرسل في هذه الحالة. بالتالي، هي حالة تنبع فيها مرجعيات الخطابين من المكان نفسه. القوة، على الأقل في المنطق المتبع هنا، هي خاصية حقيقة بديهية: من اظهر قدرات اكثر تدميراً هو الأقوى. لا يتطلب الامر تفسراً اعمق. بسبب تلك الجوانب الخاصة بتك الميزة، ستؤدي الخبرة الى الاستنتاج نفسه في الجبهتين.
النهاية
العمليات النفسية، من خلال تعريفها، تسعى إلى خرق خطاب العدو لتدخل فيه خطابها، على أمل توكيد وبالتالي الحث على وجود أفعال جديدة. عبر دراستنا، وجدنا في المقابل، أنّ الرسالة المرمزة تواجهت مع نقاط اختلاف كثيرة قد اجبرتها على الابتعاد عن الفكرة الأساسية التي ابتغاها لها المرسل.
مع محاولتي وضع خريطة لعملية فك الترميز، وهو خيار من ضمن خيارات كثيرة، تعرض المسار لتأثير عوامل متعلقة بالمتلقي. شبكته المرجعية الخاصة ــ اللغة، الموسيقى، الأدب، التاريخ، التعبير السياسي، الرموز الاجتماعية ــ هي ما يؤثر على مسار القراءة. كانت علاقة القوة غير المتجانسة التي تربط بين الجبهتين موجودة، وكامنة في القراءة كلّها، لكنّها تراجعت لتصبح ميزة ذات صفة تعريفية، وليس سلطة ذات تأثير. يجتاح المنشور المرمز، بالتالي، الفضاء المادي للمتلقي، لكنّه ينتظر الاعتراف به، اي ضمن نظام المتلقي المرجعي. الرسالة تصبح جزء من نطاق المتلقي المنطقي فقد بعد أن يقرأها فعلياً.
فيما يبدأ المتلقي عملية فك الترميز، تواجه الرسالة المرمزة احتمالين: إما أنّها لن تشكل تحدياً لمعاني القارئ المكرسة، وتختفي بسلاسة، مكررة بالتالي خبراته السابقة. أو أنّها ستؤدي إلى مواجهة تستدعي الشبكة الحالية من المرجعيات وتؤدي إلى توافق يسمح بالانتصار على الرسالة. في الحالتين، ستصنف الرسالة في خطاب القارئ. كونها تتعلق بدراستنا، اعتقد أنّ المواجهة هي الشرط الوحيد الذي يمكن أنّ يؤدي إلى التزام من قبل المتلقي. اذا لم تحدث ايّ مواجهة، ستستوعب الرسالة بسهولة في المجموعة الحالية من المرجعيات، دون ان تؤدي إلى أي امر جديد. فالمواجهة هي امر تثقيفي. اجبرت تلك المناشير المتلقي على اعادة النظر بعلاقات شبكاته، وإعادة تكييفها للسماح بتلك المعلومات الجديدة. المواجهة هي الخبر الجديد.
هذا التطور التثقيفي على جبهة القارئ قد لا يكون مقصوداً من قبل المرسل. على سبيل المثال، حين استرسل فريق العمليات النفسية الاسرائيلي حول خداع نصر الله وعدد القتلى في صفوف حزب الله، ما يستوعبه القارئ قد يكون عدم فهم اسرائيل لآليات «الزعامة» اللبنانية، والمراقبة الشديدة لشؤون البلاد السياسية، أو التشابك مع الخطاب الأميركي. وفي حالة مواجهة المتلقي صورة عن نفسه لا يعرف أنّها له، فإنّ من المرجح ان نقع على انحراف مساري الترميز، وفك الترميز ليصبحا مونولوغين لا يلتقيان. ستسمح المواجهة باستيعابات جديدة محتملة.
في المواجهة المقبلة، في المقابل، التحديث المستوعب لن يكون في مجال المعرفة المكتسبة حديثاً، لكن مرجعاً سيستحضر لإرشاد القراءة المطلوبة، وتلك هي الآلية التي يتطور عبرها اي خطاب. الخطابان اللذان اغنيا مساري الترميز وفك الترميز ليسا كيانين ثابتين، فهما يتواجدان ويتطوران وفق بنى أخرى. المواجهة التي درسناها هي بالتالي، اصطدام تثقيفي، في سلسلة مستمرة، في المسار التطوري الفطري لأي خطاب. فقط عبر التفاعل بين تلك الخطابات يمكن ان نقع على تطور في المعنى.
المراجع
*هذا المقال كتب ضمن حلقة دراسية بعنوان «ملامح النزاع» في الجامعة الأمريكية في بيروت في فصل الربيع عام ٢٠٠٧
1.Daugherty, William E. A Psychological Warfare Casebook. Baltimore: Published for Operations Research Office, Johns Hopkins University by Johns Hopkins, 1958.
2. Evamy, Michael. World without Words. London: Laurence King, 2003. Print.
3. Friedman, Herbert A. "Israeli Propaganda Raids On Lebanon." Psywarrior.com. 20 Apr. 2007. <http://www.psywarrior.com/>.
4. Hall, Stuart. "The Work Of Representation." Representation: Cultural Representations and Signifying Practices. London: Sage in Association with the Open University, 1997. 15-41.
5. Jowett, Garth, and Victoria O'Donnell. Propaganda and Persuasion. Thousand Oaks, CA: Sage, 1999.
6. McLaurin, R. D. Military Propaganda: Psychological Warfare and Operations. New York, NY: Praeger, 1982.