خلقت الانتخابات النيابية في لبنان في ٢٠٠٩ منبراً لحملات انتخابية مختلفة، لا تعد ولا تحصى. الصراع بين الأحزاب السياسية المختلفة انطلق من المواجهات على الأرض، ووصل إلى اللوحات الإعلانية. كان خطاب كل حزب سياسي واضحاً من خلال تلك الحملات السياسية في الوقت الذي حاول فيه كل حزب ان يعزز حضور ايديولوجيته وفكره. تيار المستقبل هو مثال بارز على ذلك، بما انّه حزب جديد نسبياً، ويسعى جاهداً اليوم لتحديد ونشر أفكاره. الحزب ممثل كبير للطائفة السنيّة قي لبنان. السنّة يتميزون بعلاقة خاصة بين الزعيم والناس. ترتكز تلك العلاقة على نظام الزبائنية الذي يحدد بوضوح دور الزعيم والمناصرين والوسيط. يتميّز النظام ذاك برسالة إعلامية من الزعيم إلى الناس، واخرى من الناس إلى الزعيم، تؤدي إلى شكل جديد من الدعاية السياسية المرتكزة على الزبائنية. يعيد ذلك الشكل النظر بالعلاقة التنازلية للدعاية ويظهر دعاية سنيّة مميزة تبرز من خلال حملات تيار المستقبل.
أحد المذاهب الابرز في لبنان هم السنّة. لعب ذلك المذهب دوراً كبيراً في السياسة اللبنانية منذ البدء. اكبر وجود للسنّة في لبنان هو في العاصمة بيروت. بعد الاستقلال في ١٩٤٣، توصل الزعماء اللبنانيين إلى اتفاق غير مكتوب، يمنح السنّة منصب رئيس الوزراء. ادى ذلك إلى صعود قوّة السنّة، واستمر حتى الثمانينات، إذ كان السنّة قادة المسلمين، في النفوذ السياسي والسيطرة على الموارد الاقتصادية (1).
للزعيم او القائد تعريف خاص في الخطاب السني. وفق هوتينغر، الزعيم في لبنان هو القائد السياسي الذي يحظى بمساندة المجتمع المحلي، ويحتفظ بذلك عبر الحماية، او الظهور بمظهر حامي مصالح أكبر عدد ممكن من زبائنه (2) (المرشح الرئيسي للزعامة هو رئيس الوزراء السني). تلك العلاقة بين القائد والتأييد تبيّن بنية القوة المميزة التي تعتمد عليها السياسة اللبنانية. أكثر من ذلك، تختلف تلك البنية السياسية من مجتمع لآخر. يعلب السنّة دوراً كبيراً في السياسة اللبنانية ، ودراسة البنية السياسية الموجودة بين السنّة هي مثال بارز على السياسة اللبنانية والسياسيين. ستركز هذه الدراسة على بيروت، كونها تحتوي على اكبر تجمع سني في لبنان.
في التاريخ اللبناني الحديث، هناك نمط واضح وتشابه بين علاقة الزعيم السنّي بجماعته. ترتكز تلك العلاقة على ما يعّرفه جونسون بأنّه «نظام الزبائنية». يقسم ذلك النظام السنّة الى ثلاثة فئات مختلفة: القائد (العراب)، الوسيط، والمؤيدون (الزبائن) (3). القائد السياسي او الزعيم هو عضو في البرلمان او رئيس للوزراء، ويستطيع الوصول إلى خدمات الدولة، التي يوزعها على مؤيديه.
يعّرف نظام الزبائنية على أنّه العلاقة بين الزبون والعراب، ويؤمن الأخير خدمات مختلفة للزبون مقابل تأييد انتخابي. بالإضافة إلى ذلك، لدينا وسطاء او قادة احياء وشوارع، يوظفهم الزعيم وهم مسؤولون عن تنظيم وضع الزبائن. هؤلاء الوسطاء، أو ما كانوا يعرفون بالقبضايات، عرف عنهم القوة الجسدية، العنف والجريمة. مقابل تنظيم وتعبئة الناس، يمنح القبضاي الحصانة والحماية من الزعيم. كل قبضاي يولى على شارع معيّن. قبل الحرب الأهلية اللبنانية، كان الزعماء السنّة المعروفين ينتمون إلى العائلات الثرية ذات السمعة الاجتماعية الكبيرة. عائلات ورثت علاقاتها من الفترة العثمانية، مثل آل الصلح وسلام (4). العديد من الزعماء السنّة الذين اعتمدوا نظام الزبائنية خلال تلك الفترة، كانوا من تلك العائلات القوية، وعبئوا مجتمعاتهم وفقاً لذلك. لكن مع بدء الحرب الأهلية، تم تأليف الحركة الوطنية التي وحدّت المسلمين بالإضافة إلى احزاب سياسية مختلفة. بالنتيجة، فقد الزعماء السنّة الكثير من القوة التي يتمتعون بها (5). خلال ذلك الوقت، أنشأ قبضاي من الطريق الجديدة، إبراهيم قليلات، ميليشيا «المرابطون» التي اصبحت مجموعة قوية داخل الحركة الوطنية. ذلك التحوّل في البنية السياسية داخل المجتمع السنّي أدى إلى انهيار نظام الزبائنية القائم. لم يعد قليلات وغيره مدينين لزعمائهم السابقين.أسست الحرب الأهلية اللبنانية حركة بديلة في بيروت السنيّة، مستقلة عن الزعيم. لكن انهيار الحركة الوطنية لاحقاً، ادى إلى تشرذم الأحزاب المختلفة التي توحدت سابقاً. تحوّل الصراع بين الأحزاب إلى صراع طائفي عوض ان يكون ذات طبيعة سياسية. أدت المواجهات في النهاية إلى القضاء على «المرابطون»، الميليشيا السنيّة. الهزيمة تلك والتدمير الجزئي للاقتصاد اللبناني تميزا بفردية مطلقة وإعادة نظام الزبائنية في وقت لاحق.
في تشرين الاول ١٩٨٩، اجتمع البرلمان اللبناني في مدينة الطائف السعودية للتفاوض بشأن انهاء الحرب في لبنان (6). رعى اللقاء المليونير اللبناني رفيق الحريري الذي كان يعمل في المملكة العربية السعودية. ادى ذلك إلى تعيينه رئيساً للوزراء في ١٩٩٢. من اجل فرض زعامته السنية، اشترى الحريري مؤسسات وأراض عدّة في بيروت، ودعم اخرى مالياً. أسس سوليدير، التي استولت على أغلبية وسط بيروت التجاري، كذلك اشترى القصر الرئاسي القديم في القنطاري وحوّله إلى استديوهات لمحطته التلفزيونية «المستقبل». كذلك أسس جريدة «المستقبل»، و«راديو الشرق». اكثر من ذلك، قدم مساعدة مالية لمؤسسة «المقاصد» التي كانت مؤسسة تعليمية سنيّة هامة، أسست في بداية القرن العشرين (كانت سابقاً تحت السيطرة المباشرة لعائلتي الصلح وسلام). كذلك، اسس «مؤسسة الحريري» التي امنت خدمات صحية وتعليمية.
استمرت زعامة الحريري، خصوصاً انّه كان رئيساً للوزراء بين ١٩٩٢ و١٩٩٨، ثم من ٢٠٠٠ حتى استقالته في ٢٠ تشرين الأول ٢٠٠٤. في الرابع عشر من شباط ٢٠٠٥، اغتيل الحريري بواسطة سيارة مفخخة. أدى ذلك إلى سلسلة من الهزات السياسية. استمرت الزعامة في عائلة الحريري وانتقلت إلى إبنه سعد (7). كما يقول خلف، اصبحت الزعامة ممأسسة تقريباً داخل الجسم السياسي في لبنان (8). بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٨، تميزت المرحلة بالاستقطاب الحاد بين التحالفات السياسية الأبرز في لبنان، بسبب بروز حزب الله كممثل عن الشيعة، مقابل تيار المستقبل ممثل السنّة بقيادة سعد الحريري. ذروة ذلك الاستقطاب كانت في السابع من أيار ٢٠٠٨ خلال مواجهات ادت إلى حصار تيار مكاتب تيار المستقبل في بيروت من قبل مؤيدي حزب الله وامل. لكن تم التوصل الى اتفاق بخصوص منطقة الطريق الجديدة ــ وهي معقل السنّة وتيار المستقبل ــ مما ادى إلى تسليم المكاتب من اجل تجنب المواجهات ومزيد من سفك الدماء.
الصراع المستمر والتوتر السياسي منذ شباط ٢٠٠٥ حتى أيار ٢٠٠٨، شهد على بروز دعاية سياسية حادة في الطريق الجديدة، من خلال الانتاج الكبير للملصقات واللافتات تأييداً لتيار المستقبل، والسنّة بشكل عام. لكن في أيلول ٢٠٠٨، اتفق سعد الحريري ونبيه بري على إزالة «كل الشعارات المستفزة وطلبا من المجموعات اللبنانية المختلفة للتخلص من الملصقات واللافتات والشعارات المنتشرة في لبنان» (9) في محاولة لتخفيف التوتر السياسي في أعقاب أحداث السابع من ايار (الصورة رقم 1).
لم يدم ذلك الاتفاق طويلاً مع بدء الحملات السياسية في شباط ٢٠٠٩. رغم ذلك، تحوّلت الحملات السياسية من الملصقات الصغيرة الحجم واللافتات، إلى لوحات إعلانية ضخمة. اللغة المرئية المعتمدة في تلك اللوحات، تتعارض مع وسائل الدعاية السياسية التقليدية. على عكس اللافتات الصغيرة والملصقات، استخدام اللوحات يصبح امراً رسمياً يلقي بمسؤولية أكبر على عاتق الحزب السياسي.
من اجل فهم افضل لأسلوب الدعاية السياسية الجديد الخاص بتيار المستقبل، سنحلل الحملات الثلاثة التي اعتمدها بين آذار وحزيران ٢٠٠٩. ستعتمد هذه الدراسة على تحليل سيميائي للوحات الإعلانية ،ونموذج الترميز وفك الترميز الذي اعتمده ستيوارت هول، المرتكز على دراسة وسائل الإعلام وخصوصاً البعد الايديولوجي للرسائل الإعلامية (10). يسمح هذا النموذج بدراسة طريقة ترميز الرسائل بشكل خفي من قبل منفذها، وكيف يتم تفكيك ترميزها عبر التواصل، من قبل المتلقي لها.
آذار ٢٠٠٩
الحملة الأولى: اقتباسات من الأدب العربي وأقوال شعبية (الصورة رقم ٢)
تصميم: كوانتوم (ساتشي آند ساتشي)
طبعت تلك الحملة بشكل حصري على لوحات إعلانية في مناطق مختلفة من لبنان، لكنّها كانت غائبة عن بيروت. الشعار طبع على خلفية زرقاء (لون تيار المستقبل) وبتوقيع رمز الحزب واسمه. الاستخدام الحصري للخط وغياب اي صورة يجعل اللوحة تشبه اللغة المرئية للافتات. يلعب استخدام كلمة مستقبل في الاقتباسات على الكلمات، إذ يستعير الحزب عبارات شعبية ويدخلها في خطاب جديد، خاص بتيار المستقبل. عبر استخدام تلك الاقتباسات الأدبية، يمارس تيار المستقبل سلطة ثقافية على الناس الذين يسعى للوصول إليهم. إنّ استخدام تلك الاقتباسات لا يناسب ربما الجمهور الذي تستهدفه الحملة. بالإضافة إلى ذلك، وجود تلك اللوحات الإعلانية في مناطق لا تدين بالولاء لتيار المستقبل يعارض الهدف الأساسي للحملة. بالتالي، تقف عقبتين بين ترميز وفك رمز الرسالة: اللغة والمكان الجغرافي. ربما كانت تلك المسألة السبب الذي أدى إلى تغيير تيار المستقبل لشركة الإعلانات.
نيسان ٢٠٠٩
الحملة الثانية: سلسلة "أولاً" (الصور ٣ و ٤ و ٥)
تصميم: إمباكت بي بي دي أو
ترتكز حملة "اولاً" على شعار اشتهر خلال احياء الذكرى الثانية لاغتيال رفيق الحريري. الشعار الأصلي هو "لبنان أولاً"، واستخدم كأساس لهذه الحملة. صممت عشرون لوحة إعلانية مع لعب على كلام الشعار، عبر استبدال كلمة لبنان بكلمات أخرى مثل الزراعة، والامن، والاقتصاد. كل تلك الشعارات المختلفة ترافقت مع عبارة "انتخب أولاً". تساوي السلسلة ما بين كلمات مختلفة تمثّل مخاوف وطنية عدّة، لكن الكلمة الأساس هنا هي "انتخب"، بما أنّها تضيف طبقة جديدة من المعاني لكل تلك الشعارات. الشعارات وضعت على خلفية سماء زرقاء مع شمس ساطعة، تشير إلى كل واحد من الشعارات (تصوير رمزي لشعار تيار المستقبل). مع مساواة المخاوف الوطنية بكلمة "انتخب" بشكل بسيط وواضح، تخبرنا هذه الحملة أنّ الطريقة الوحيدة لمعالجة تلك المخاوف هي عبر انتخاب تيار المستقبل. بالمقارنة مع سالفتها، تقدم هذه الحملة عنصراً مرئياً جديداً هو السماء الزرقاء، عوض اللون الازرق العادي.
أيار\ حزيران ٢٠٠٩
الحملة الثالثة: سلسلة "والسما زرقا" (الصور ٦ و ٧)
تصميم: إمباكت بي بي دي أو
في ٧ أيار ٢٠٠٩، نظم تيار المستقبل مهرجاناً سياسياً للإعلان عن مرشحيه لدائرتي بيروت الثانية والثالثة، وذلك تزامناً مع الذكرى الأولى لأحداث ايار من العام السابق. خلال ذلك المهرجان، توجه سعد الحريري الى الجمهور بخطاب، قال فيه: "اليوم، هو الذكرى السنوية الأولى لذاك اليوم المشؤوم، الذي اعتقد فيه الجُنون أنَ بإمكانه أن يجتاح بيروت الصامدة العربية قبل أن تجتاحَه هي، بحلمها وحكمتها، بصبرها وانفتاحها وهدوئها ووطنيتها.وهنا أتمنى عليكم جميعاً، أن تقفوا معي دقيقة صمت على أرواح الشهداء الذين سقَطوا قبل عامٍ تماماً... أردت هذا الزمان وهذا المكان، لا لِنبقى في الماضي، كما يَحلو للبعض أن يتهمنا ، بل لكيْ نتطلع إلى المستقبل". (11).
كان سعد الحريري يلقي خطابه وورائه ملصق كبير جداً لوالده، على خلفية زرقاء وعليه عبارة "ما منسى والسما زرقا". أصبحت العبارة الشعار الأبرز للحملة التي تلت المهرجان، وشملت كل لبنان في اليوم التالي.
في المرحلة الأولى، نشرت ٣ نسخات من الحملة باستخدام كل مكان إعلاني موجود في البلاد. النسخات الثلاث هي: ما منسى والسما زرقا، ما بيرجعوا والسماء زرقا، وما منتركك والسما زرقا.
إنّ عبارة «والسما زرقا» تشير أيضاً إلى السماء الزرقاء المستخدمة في الحملات السابقة، وتحيل إلى اللون الخاص بتيار المستقبل. كذلك، يعتبر ذلك تغييراً من اللغة المحايدة المستخدمة في الحملات السابقة. إذ مع اقتراب الانتخابات، كانت هناك حاجة لاستخدام لغة اكثر عاطفية يمكنها تعبئة الناس، وبالتالي، تأمين نسبة اكبر من الأصوات الانتخابية. تذكير سكان بيروت بمواجهات العام السابق وبالشهداء و"الاجتياح"، كان من اجل اعطاء الزخم للحملة. فيما يتعلق بالجانب المرئي من الحملة، استخدمت الجملة السابقة بشكل متطور اكثر. أصبحت السماء الزرقاء اكثر اشراقاً، والشعار اكبر، مع وضع التوقيع في يسار اسفل الملصق. ترافق التعزيز البصري مع الصوت "الأعلى".
قبل عشرة ايام على انتخابات ٢٨ أيار (الصورة رقم ٨) اطلقت المرحلة الثانية من الحملة، فتم استبدال الشعار بعبارة "زي ما هي والمسا زرقا". شعبية هذا الشعار تعود لرفيق الحريري في انتخابات سابقة. يستخدم الشعار لغة عامية ويوجه نداء مباشراً للمناصرين للتصويت للائحة مرشحين قررهم تيار المستقبل، دون تغيير اي منهم (شطب بعضهم). هو في الوقت نفسه، نداء للناس كي يصوتوا للائحة كاملة ووعد للمنافس بانّ اللائحة كاملة ستربح الانتخابات.
تحليل الحملات الثلاث يبيّن تطوّر في اللهجة المستخدمة من قبل تيار المستقبل. مع اقتراب يوم الاقتراع، تغيّرت اللغة المستخدمة من فصحى إلى عامية، من قول مأثور إلى طلب موّجه مباشرة إلى الناس، ومن صوت محايد إلى آخر حماسي. تحوّلت الرسالة من واحدة شخصية إلى أخرى تستهدف وتعرّف المنافس. رغم أنّ الحملة الاولى كانت تشبه اللافتة، لكن مع كلام منمق وفصيح، الحملة الاخيرة لم تبدو كلافتة، لكنّها تشبهها في الوظيفة اذ استخدمت فيها لغة تشبه التي يستخدمها الناس.
مع تطوّر الحملة الرسمية، برزت مجدداً ملصقات صغيرة ولافتات في منطقة الطريق الجديدة. كان ذلك نتيجة مباشرة لعدم فعالية الاتفاق كحل نهائي. الملصقات غير الرسمية التي صممها الناس والمجموعات والمنظمات الاهلية، كانت لها وظيفتين. وجودها لوحده في شوارع بيروت يقيّم مقدار المساندة التي يكنها الناس. كذلك يعطي فكرة عن تفسير الناس للحملات الرسمية التي كانت ترافقها.
من أجل إلقاء نظرة على الانتاج المرئي الذي يحصل في شوارع وازقة الطريق الجديدة، توجب علينا ان نجول في المنطقة لمراقبة وتوثيق الملصقات واللافتات. كانت تجربتنا الاولى فاشلة خصوصاً حين طلب منا عدم التصوير من قبل «رجال امن» من تيار المستقبل. قيل لنا إنّه يجب ان ننال إذناً من الحزب لالتقاط الصور. الخطوة التالية كانت الاتصال بمنسق تيار المستقبل في الطريق الجديدة، الذي جلس معنا واخبرناه عن الموضوع الذي نعمل عليه. احالنا المنسق الى السيد طارق الدنا الذي قيل لنا إنّه «سيتخذ الاجراءات الملائمة لكل ما نحتاجه». بعد ايام عدّة، التقينا السيد الدنا، وهو قبضاي معاصر يسيطر على قسم كبير من الطريق الجديدة. هو طويل، شهره ناعم يرده إلى الخلف، وطلباته تنفذ بسرعة من «ناسه». طلبنا بالتقاط الصور قوبل بالموافقة والارتباك. لكن السيد الدنا اعطانا موعداً لملاقاة «احد الشباب» ليجول بنا في المنطقة. وكما وعدنا، انتظرنا بضعة شبان في المنطقة المتفق عليها، واخذنا احدهم في جولة على دراجته النارية.
بالإضافة إلى ذلك، كان يفترض بسعد الحريري أن يأتي الى الطريق الجديدة ذلك اليوم، من أجل مهرجان سياسي، لكن ألغي الموعد قبل ليلة. بعد يوم من الإلغاء، نشر موقع التيار الوطني الحر الإلكتروني خبراً بأنّ إلغاء المهرجان يعود إلى خلاف بين «جماعة» طارق الدنا و«جماعة» شاكر البرجاوي. هؤلاء هم الشخصين المسؤولين في الطريق الجديدة، كل عن حيّه. هذه القصة تبيّن الطريقة التي اعيد فيها العمل بنظام الزبائنية مع الاحزاب الجديدة، مع وجود تراتبية واضحة بين القائد والمسؤولين والوسطاء والناس. ومن أجل الانتقال من شخص لآخر في التراتبية يجب اتباع عملية بيروقراطية طويلة.
من أجل تنفيذ التحليل المقارن ذلك، اخترنا ثلاث حالات استخدم فيها الشعار نفسه الخاص بالحملات الرسمية في تلك غير الرسمية، لكن بشكل جديد.
الحالة الاولى: السنّة اولاً (الصورة رقم ٩)
في تلك الحالة، يتم تطبيق الشعار الذي استخدم في الحملة الرسمية الثانية، لكن عوض استعمال مفهوم واسع مثل الاقتصاد او الامن، اختار «شباب المنطقة» كما يبدو التوقيع على الملصق، مفهوماً ذات أهمية أكبر بالنسبة لهم. يقول الملصق «السنّة أولاً»، كما لو أنّ السكان يقولون إنّه بالنسبة لهم، يأتي السنّة أولاً، وليس لبنان أو الزراعة اوالتعليم، او الاقتصاد... يعود ذلك إلى أنّ المجتمع السنّي شعر بالتهديد خلال أحداث السابع من أيار ٢٠٠٨، ويؤمن اليوم أنّ وجود الطائفة يأتي أولاً، وينبغي أن يكون ذات أهمية كبيرة للقائد أيضاً. إلى جانب وجود ٢١ نسخة من الحملة الحالية، يقدم ذلك الملصق عنصراً مرئياً حياً عبر صورة رفيق وسعد الحريري، بصفة ممثلين عن الطائفة. اللغة الحيادية التي استخدمت في الملصق الأصلي تحوّلت إلى أسلوب اكثر عاطفية يمكن أن يكون رداً على حقيقة أنّ الحملة الاصلية لم تكن وفق توقعات السكان. كان يفترض بالملصق أن يوصل رسالة عن الازدهار والامن في المستقبل، لكن في تلك الحالة، فسرها السكان على انّها تتناول وضع مصالح السنّة على رأس كل المصالح، ومن ضمنها تلك التي تطلبها الحملة الاساسية.
الحالة الثانية: ما منسى والسما زرقا (الصورة رقم ١٠)
كما ذكرنا سابقاً، اطلقت حملة «والسما زرقا» في الذكرى الأولى لأحداث أيار ٢٠٠٨. ترافق ذلك مع ملصقات صغيرة الحجم وزعت في أماكن مختلفة من بيروت، وتحديداً في طريق الجديدة، عليها صور لضحايا المواجهات. وضعت اربع صور للضحايا الشبان على خلفية زرقاء، وهو اللون ـ الرمز، واستخدم شعار الحملة الاصلية: «ما مننسى، والسماء زرقا». ربما فهم مناصرو تيار المستقبل الحملة بتلك الطريقة، واعلنوا انّهم لن ينسوا اعتداء الاعداء عليهم العام السابق، ولن ينسوا كذلك الضحايا الذين سقطوا آنذاك. في تلك الحالة، يكمل الملصق غير الرسمي أو يجيب عن الملصق الرسمي: من هو الذي لن ننساه؟ ومن نحن؟ إذ يأتي الملصق غير الرسمي ليؤمن تفسيراً محتملاً للعبارة التي تحمل معاني كثيرة.
الحالة الثالثة: زي ما هي (الصورة رقم ١١)
تجاوب السكان مع طلب الحزب بالتصويت للائحة المرشحين خلال الانتخابات، وتحديداً مع الحملة الأخيرة، التي رد عليها السكان برفع ملصقاتهم التي استخدمت الشعار نفسه "زي ما هي"، بتوقيع أفراد ومنظمات ومجموعات مختلفة. في هذه الحالة بالتحديد، نجد ملصقاً لـ"جمعية نساء طريق الجديدة" الذي يقول: "زي ما هي من أجل كرامة بيروت". يؤكد ذلك مطالب التيار، ويشدد على اهمية تنفيذ المطلب. بالإضافة، يرسل ذلك رسالة عبر استخدام تلك الوسيلة، من الشعب الى القائد (عكس الملصق الكبير الذي كان موجهاً من القائد إلى الشعب). اسم الذي يوّقع اللافتة يعتبر صوتاً انتخابياً يمثل المنظمة او العائلة او المنطقة.
كما هو واضح في الحالات الثلاث السابقة، يترافق صنع الملصقات غير الرسمية واللافتات بالتوازي مع صناعة الحملات الرسمية. أولاً، يقدم الملصق غير الرسمي تفسير الناس الخاص للرسالة التي يتضمنها الملصق الرسمي. ثانياً، يجيب الملصق غير الرسمي على الرسالة المطروحة في الحملة الرسمية، أو يؤكدها في حالات أخرى. في الحالات الثلاث السابقة، استخدمت الحملة غير الرسمية كوسيط للناس ليوصلوا رسائل تأييد عدّة لزعيمهم، الذي في المقابل ينقل رسالته الخاصة عبر الحملة الرسمية. حين يتم تعليق ملصق غير رسمي، ويكون موقعاً من قبل شخص ما او مجموعة معينة، يتم الإيحاء أنّ هناك وسيطاً ما أو مسؤول حزبي سيرى الملصق ويوصل رسالة التأييد الخاصة به إلى الزعيم، مقابل الخدمات التي يقدمها ذلك الأخير.
العلاقة بين الحملات الرسمية للحزب وتلك غير الرسمية التي يقوم بها الناس توحي بحميمية ما بين البروباغندا والنظام الزبائني. يتحرك الإثنان مع زعيم يؤمن للناس خدمات مختلفة مقابل مساندة سياسية، عبر وسيط. القبضاي، او الملصق غير الرسمي يمثلان الوسيط بين الزعيم والناس. بالإضافة، يدفع ذلك لإعادة النظر بمفهوم الدعاية السياسية ذاته، بوصفه علاقة قوّة تصاعدية (تنبع من الشعب). في حالة الطائفة السنّية في بيروت، وتحديداً الحملات السياسية لتيار المستقبل في الطريق الجديدة، نحن امام شكل مختلف من البنية السياسية، تعمل فيه البروباغاندا السياسية ضمن دائرة قوة بين القائد والوسيط والشعب. تلك البنية السياسية كانت واضحة بشكل كبير خلال سعينا لاخذ موافقة لالتقاط الصور. من وجهة نظر معينة، تعّرف تلك التراتبية دور كل عضو في المجتمع ضمن إطار أكبر. ومن وجهة نظر أخرى، تعّرف الوظائف على مستوى الحملات السياسية. يعتمد القائد على نوع معين من الملصقات الدعائية ورسائل معينة فيها، في المقابل، تتتج الجموع أنواع أخرى من الملصقات والرسائل، وتحدد كل منها دورها المرسوم بعناية ومن أجل هدف واضح.
المصادر:
*هذا المقال كتب ضمن حلقة دراسية بعنوان «ملامح النزاع» في الجامعة الأمريكية في بيروت في فصل الربيع عام ٢٠٠٩
الكتب
Johnson, Michael L., Class & Client in Beirut: the Sunni Muslim community and the Lebanese state, 1840-1985, London: Ithaca Press, 1986
Stuart Hall, Dorothy Hobson, Andrew Lowe, and Paul Willis eds., Culture, Media, Language. London: Routledge Press, 1980
Maasri, Zeina, Off The Wall. London: I.B. Tauris, 2009
Khalaf, Samir. Lebanon’s Predicament. New York: Columbia University Press. 1987
Hottinger, Arnold. Zu’ama in Historical perspective, in Leonard Binder (ed.), Politics in Lebanon (New York: Wiley, 1996)
الصحف
النهار
الاخبار
المواقع الإلكترونية
الموقع الرسمي للتيار الوطني الحرwww.tayyar.org
المراجع
1 Johnson, Michael L., Class & Client in Beirut: the Sunni Muslim community and the Lebanese state, 1840-1985, London: Ithaca Press, 1986, p.1
2 Hottinger, Arnold. Zu’ama in Historical perspective, in Leonard Binder (ed.), Politics in Lebanon (New York: Wiley, 1996)
3 Johnson, Michael L., Class & Client in Beirut: the Sunni Muslim community and the Lebanese state, 1840-1985, London: Ithaca Press, 1986, p.3
4 Johnson, Michael L., Class & Client in Beirut: the Sunni Muslim community and the Lebanese state, 1840-1985, London: Ithaca Press, 1986, p.48
5 Johnson, Michael L., Class & Client in Beirut: the Sunni Muslim community and the Lebanese state, 1840-1985, London: Ithaca Press, 1986, p.105
6 Maasri, Zeina, Off The Wall. London: I.B. Tauris, 2009
7 Maasri, Zeina, Off The Wall. London: I.B. Tauris, 2009. p. 57
8 Khalaf, Samir. Lebanon’s Predicament. New York: Columbia University Press. 1987. p. 98
9 جريدة النهار، 29 أيلول
10 Stuart Hall, Dorothy Hobson, Andrew Lowe, and Paul Willis eds., Culture, Media, Language. London: Routledge Press, 1980. p. 122
11 جريدة الاخبار، ٨ أيار