كل التغيّرات العميقة في الوعي، تترافق بطبيعتها مع حالات مميزة في فقدان الذاكرة. ومن خلال حالات النسيان الجماعي تلك، وفي شروطٍ تاريخيةٍ محددة، تنشأ سرديات... ولمساعدة غاية السرد، يتوجب على هذه الميتات العنيفة [حالات الانتحار النموذجية، حالات الاستشهاد المؤلمة، حالات الاغتيال، حالات تنفيذ حكم الإعدام، الحروب والمحارق] أن تتأرجح بين تذكّر ونسيان على أنها «تخصّنا».
بنيدكت أندرسون
ما من نصٍ رسميٍّ يفسّر ــ بشكلٍٍ مُرْضٍ جامع ــ كيف بدأت الحرب الأهلية في لبنان ولماذا، رغم وجود إجماعٍ على تاريخٍ رسمي هو 13 نيسان / أبريل 1975، يحدد بدء النزاع المسلح. يتوافق هذا التاريخ مع حادثة عنفٍ أشعلت الحرب الأهلية، وهو أمرٌ قابلٌ للجدال، إذ قام رجالٌ من ميليشيا حزب الكتائب بمهاجمة حافلةٍ تقل ركاباً فلسطينيين، ما أدى إلى مقتل حوالي ثلاثةٍ وثلاثين شخصاً منهم. وزعم حزب الكتائب أن ذلك الاعتداء جاء ردّاً على محاولة اغتيالٍ تعرّض لها زعيم الحزب في اليوم نفسه والمنطقة نفسها. كانت الحافلة تعبر عين الرمانة، وهي منطقةٌ تقع في القطاع الشرقي المسيحي لمحيط بيروت، على خط التماس الذي قسم العاصمة في نهاية المطاف إلى قطاعين.
شكّل تاريخ 13 نيسان / أبريل 1975 المادة الرئيسية لملصقات إحياء الذكرى التي أعدّتها القوات اللبنانية . وبما أن نشوء القوات اللبنانية ارتبط باندلاع الحرب، يتضح سبب إيلائها أهميةً خاصةً لهذا التاريخ بخلاف الأطراف السياسية الأخرى. ففي الثالث عشر من نيسان / أبريل، تخلّد القوات اللبنانية ذكرى جوهرية في مسار تكوينها وتعيد التذكير بقضيّتها، أسوة بأحزاب أخرى التي تستعيد سنويا" ذكرى تأسيسها.
«13 نيسان، فجر الحرية» عنوان ملصقٍ أصدرته القوات اللبنانية حوالي العام 1983. الصورة التي تبرز مقاتلين متأهبين تماماً للمعركة، تكمل رسالة الملصق: «فجر الحرية» من خلال الكفاح المسلّح. تنبعث طاقةٌ مشعة من المقاتلين وتتوسع إلى خارج حدود الملصق، فهم كنايةٌ عن شمسٍ تستهل دورتها اليومية الطبيعية ــ «الفجر» ــ في العام 1975 لتستكمل الحرية. يمكن فهم «الحرية» في خطاب الجبهة عن لبنان السيّد، الخالي من قواتٍ مسلحةٍ «أجنبية»، هي المقاومة الفلسطينية والقوات السورية. أصدر الملصق في فترةٍ أعقبت إجلاء منظمة التحرير الفلسطينية والجيش السوري عن بيروت في سبتمبر / أيلول 1982. وعلى الرغم من احتلال إسرائيل لبيروت بعد بضعة أسابيع من غزوها للأراضي اللبنانية من أقصى الجنوب وحتى العاصمة في العام 1982، فإنّ «الحرية» المنجزة التي يفترضها الملصق لم يعرقلها، على ما يبدو، الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.
علاوة على ملصقات كثيرة أصدرتها القوات اللبنانية إحياءً لذكرى 13 نيسان / أبريل 1975، وقعنا على ملصقين وحيدين أنتجهما طرفان آخران، ويعالجان الحدث التاريخي نفسه. أصدرت جبهة التحرير العربية، وهي فصيلٌ في منظمة التحرير الفلسطينية، الملصق الأول الذي يربط حادثتين بشعتين، منفصلتين زماناً ومكاناً، في سردٍ واحد (الشكل 3.16). الرابط الظاهر هو الضحايا المدنيون كما توثقهم الصور الفوتوغرافية بشكلٍ فظ. يؤكّد النصّ أنّ «هذا» ــ الميتات البشعة في الصور ــ «ما فعلته الصهيونية في دير ياسين عام 1948... وهذا ما فعلته عصابات الكتائب في عين الرمانة عام 1975». كما يؤكد الملصق، من خلال تفاعلٍ محتمٍ بين النص والصورة، أنّ الضحية لا تزال نفسها: الشعب الفلسطيني. يعلن صانعو الملصق أنّ هذا هو ما حدث في العام 1948. ولا يزال يحدث في العام 1975. في هذا الملصق، تستعاد الصورة العدوانية لـ«العدو الصهيوني» التي تقترن في المتخيّل الجمعي بتهجير السكان الفلسطينيين، وثم تتحوّل إلى الكتائب. كانت دير ياسين بداية المأساة الفلسطينية (النكبة)؛ وبالصلة مع عين الرمانة، يستنتج الملصق أنها قد تكون بداية مشروعٍ آخر للتخلص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. فمن خلال عمليّة إسقاط تجمع بين حادثتين منفصلتين في سياق سردٍي واحد، تربط رسالة الملصق إيديولوجياً بين «المعتدين» الكتائبيين والصهاينة بوصفهم أعداء ألداء للشعب الفلسطيني. في الملصق الفلسطيني، أدين الثالث عشر من نيسان / أبريل 1975 بوصفه حدثاً وحشياً؛ كما أدرج ضمن خطاب المعاناة المتواصلة للشعب الفلسطيني وتعرّضه المستمرّ لمحاولات الإبادة.
نعود إلى ملصقٍ آخر أصدرته القوات اللبنانية في العام 1983 (الشكل 3.15). يستخدم تاريخ الثالث عشر من نيسان / أبريل لاستحضار ذكرى بشير الجميّل، مؤسس القوات اللبنانية وقائدها العسكري. اغتيل بشير الجميّل في أيلول / سبتمبر 1982 عقب انتخابه رئيساً للبنان. وخلال العام 1983، أنتِج العديد من الملصقات لتعبئة مقاتلي القوات اللبنانية، اعتماداً على ذاكرتهم وتقديرهم لمثلهم الأعلى الراحل (انظر الفصل الثاني). «...متابعة المسيرة» هو عنوان الملصق: يوضح فعل تمرير البندقية من مقاتلٍ إلى آخر، المسيرةَ التي تنبغي متابعتها. المقاتل الموجود في المقدمة بوجهه المعروف هو بشير الجميّل بالزي العسكري للقوات اللبنانية، وقد تلوت عضلات ساعده وهو يمرر البندقية إلى شخصٍ يمثّل أحد مقاتلي القوات اللبنانية. يواجهنا ظهر المقاتل؛ يتسلم البندقية ويمضي قدماً، خارج إطار الملصق. نتخيله يجري ويسلّم البندقية لجنديٍّ مشابهٍ آخر، وهلم جرا؛ «متابعة المسيرة» التي استهلها بشير الجميّل، حتى بلوغ الوجهة النهائية. بكلماتٍ أخرى، متابعة المواجهة العسكرية لبلوغ «الحرية» كما عبّر عن ذلك ملصق القوات اللبنانية سابق الذكر.
لم تكن أسطورة البطل الوطني التي نسجتها جماعة بشير الجميّل حول شخصه موضع إجماع. ففي الحقيقة، اعتبره كثيرٌ من خصومه اللبنانيين خائناً تحالف مع عدوهم الوطني إسرائيل؛ إذ كان وصوله إلى الرئاسة بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلي واحتلال لبنان واقعةً مؤلمةً لجماعاتٍ سياسيةٍ عدّة، جاهرت بخيبة أملها، وهو أقل ما يقال، وتحدت سلطان الأسطورة التي حيكت حول شخصه. يقودنا ذلك إلى الملصق الثاني الذي يتناول ذكرى الثالث عشر من نيسان / أبريل من وجهة نظر المعسكر الآخر. نشر الملصق في العام 1984 في الذكرى التاسعة للثالث عشر من نيسان / أبريل، ووقّعه «أصدقاء حبيب الشرتوني» (الشكل 3.17). وعلى الرغم من أنّ الملصق لم يحمل توقيع حزبٍ محدد، فإنّ الجهة التي أصدرته واضحة. فحبيب الشرتوني عضوٌ في الحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان، وكان وراء الانفجار القنبلة الذي أودى بحياة بشير الجميّل في العام 1982، واعتقل لاحقاً وأودع السجن. لا يتنكّر الملصق لفعلته، بل يمجدها. شعار الملصق يشير إلى الحكم الأخلاقي الذي أصدره الشعب بحق من اعتبره «جزاراً»، لا ضحية، أي بشير الجميّل. ويستحضر الملصق حادثة عين الرمانة في الثالث عشر من نيسان / أبريل، بعد تسع سنواتٍ من حدوثها، بوصفها «إحدى أبشع مجازرهم». يجرّم العنوان بشير الجميّل بوصفه المقترف غير المباشر لهذه الجرائم، وهو لذلك يستحق العقاب، ويحيّي الشرتوني لأنّه نفّذ حكم الشعب. هكذا، يستبدل الملصق دوري الضحية والمجرم بنزع الشرعية عن الحكم الرسمي على الشرتوني، والاستعاضة عنه بموقف يضفي شرعيةٍ أخلاقيةٍ على فعلته.
تحتفل القوات اللبنانية بذكرى الثالث عشر من نيسان / أبريل بوصفه انبعاثاً للخلاص الوطني، في حين يتذكرها المعسكر الآخر، ويدينها، بوصفها فعلاً وحشياً. يكفي تباين الألوان وحده ليظهر بوضوح الخصومة بين مجموعتي الملصقات: الأبيض والألوان الزاهية مقابل الأسود. في كل ملصقٍ من ملصقات إحياء الذكرى، هناك عملية ربط واستيلاء على معاني الحدث التاريخي ضمن اللحظة السياسية الراهنة، في سياق خدمة خطاب الحزب في تلك اللحظة وغاية روايته. كان سرد مثل هذه الأحداث ميدان تنافسٍ وموضوع لصراع سياسي، لأنه عرضة للاستيلاء الرمزي من قبل مختلف الجماعات السياسية. ذلك أن التفسيرات المتناقضة لتاريخ الحرب طبعت الخطابات السياسية لمختلف الجماعات. وفي هذا الموضع، تندرج سياسة إحياء الذكرى في معركة الصراع على المعنى والتاريخ.
****
النص مقتبس من كتاب زينة معاصري، ملامح النزاع ٢٠١٠